تطبيع من أجل القدس
لا أحد في وسعه الآن أن يشكّك بثمار التطبيع والسلام مع إسرائيل، فقد برهنت الإمارات على صحة خيارها عندما استدعت السفير الإسرائيلي في أبوظبي، احتجاجًا على أحداث القدس، وهو ما فعلته الحكومة الأردنية، كذلك، عندما استدعت القائم بالأعمال الإسرائيلي في عمّان، لنقل الاحتجاج نفسه إلى المسؤولين في تل أبيب. ولم يكن لهذا "الانتصار" أن يحدُث، لو لم تكن هناك علاقة دبلوماسية مع إسرائيل.
ربما أجدى بنا أن نعتذر، نحن المشكّكين بسلامة المواقف العربية، إثر هذا الاستدعاء الذي فجّ العيون وأفحم المنطق، وإلا لما كان هناك أي ردّة فعل عربية حيال شراسة إسرائيل وتغوّلها على المسجد الأقصى. حتى وإن ورد في خبر استدعاء السفير الإسرائيلي في أبوظبي أنه جرى بالتنسيق مع الجانب الأردني، فهل يعني ذلك أنه لو لم يكن هناك تنسيقٌ بين الجانبين لما استدعت حكومة الإمارات سفير إسرائيل لديها؟
أيضًا، هذا سؤال مردودٌ على أصحابه المتشائمين، الذين لا ينظرون إلى النصف المليء من الكأس، بدليل أن ثمّة "تنسيقًا" عربيًّا، على الأقل، حيال الحوادث "المصيرية" الكبرى، على غرار اقتحام المسجد الأقصى. وعلينا أن نتفاءل باستمرار التنسيق العربي عندما تحلّ معارك التحرير، من يدري؟
ولا يطغى الاستدعاء على اتصالات هاتفية "ساخنة" يجريها زعماء عرب في ما بينهم (ومع أنفسهم أيضًا إن لزم الأمر)، للنظر في اعتداءات المستوطنين، ما يعني أن زعماءنا أدّوا واجباتهم على أكمل وجه، ولن يجرؤ أحدٌ على اتهامهم بالتقصير، سيّما المطبّعين منهم، وآخرين على الطريق، فهؤلاء، تحديدًا، بذلوا جهودًا مضاعفة، على اعتبار تماسّهم المباشر مع جبهة السلام المشتعلة بالزيارات المتبادلة، والاتفاقيات المشتركة، لكن لكلّ شيء حسابه، فلا يمنع، مثلًا، أن تعقد الإمارات اتفاقياتٍ تجارية مع إسرائيل بمليارات الدولارات، من أن تستدعي سفير إسرائيل، وتُخضعه لجولة تقريع وتوبيخ لقاء ما تقترفه حكومته من موبقاتٍ بحقّ الفلسطينيين في الضفة والقدس وغزة. والاستدعاء هنا يضاهي الحرب، وقطع العلاقات، والمقاطعة والحصار، بل هو أبلغ ردّ على الدماء الفلسطينية النازفة في كلّ أرجاء فلسطين، وعلى حملات الحصار والإبادة التي يتعرّض لها قطاع غزّة.
ولا يمنع الاستدعاء والتقريع من إهداء الأمنيات عبر سفارة الإمارات في تل أبيب لـ"شعب إسرائيل" بالتمتّع بأعياد هانئة وآمنة، ولو على جثة أم فلسطينية تركت خلفها رهط أيتامٍ لن يظفروا بمن يرعاهم بعدها.
بورك الرد العربي الذي أجهض قوانين نيوتن بشأن رد الفعل المساوي للفعل قوةً وعكسه اتجاهًا، فقد أثبت ساستنا بالملموس أن الردّ الضعيف أبلغ قوةً من الفعل، وأن لا ضير أن يسير متوازيًا أو مندمجًا مع الاتجاه ذاته، ما دامت الضحية فلسطين، والفعل صهيونيًّا.
والحال أن إسرائيل لن تجد سندًا أقوى من أنظمة التطبيع العربية لانتشالها من مآزقها، سيما مأزق الحرب الروسية الأوكرانية التي همّشت الدور الإسرائيلي عالميًّا، وقبلها حرب غزة التي استقطبت تعاطفًا عالميًّا غير مسبوق، وكان يمكن لهذين المأزقيْن، تحديدًا، أن يسهما بعزل إسرائيل وخسارة جزءٍ غير يسير من رصيدها الدولي، غير أن ردّة الفعل العربية جاءت سريعًا بهجمات التطبيع، وفتح الأسواق لسلع المستوطنات الصهيونية التي ترفضها دول أوروبية حتى، وبانهمار المال العربي على الأسواق الإسرائيلية، عبر شركات واستثمارات شتّى، لا تخلو من قذارة أحيانًا، سيما في قطاع الاتصالات الإسرائيلي، المعروف ببرامجه التجسّسية.
لم تعد إسرائيل وحدها معضلة الفلسطينيين في الداخل، هذا ما تثبته الأحداث يوميًّا، غير أن ذلك لا يخصم من رصيد أنظمة التطبيع، التي تتداعى بالسهر والحمّى للمُصاب الفلسطيني، عبر استدعاء السفراء الإسرائيليين، وتوجيه ما يحلو لها من مذكّرات الاحتجاج والاستنكار، مباشرة وبلا وسطاء، كما كان يحدُث سابقًا عبر المنظمات الدولية، وهو إنجازٌ كفيلٌ بإخراسنا جميعًا؛ لأنه من ثمار السلام .. وسلام على القضية.