تسوية مع شهيد

06 نوفمبر 2022
+ الخط -

هي أشقّ التسويات طرًّا، عندما يكون طرفها المقابل شهيدًا لا يفرّق بين الوطن والفردوس، ويترك خلفه إرثًا غير قابل للتوزيع أو المساومة، بل للتنفيذ فقط، فكيف إذا كان الشهيد فلسطينيًّا والإرث فلسطين؟

ومن يتابع التوقيت الفلسطيني جيدًا يعرف ما أعنيه؛ لأن الزمن هناك يُقاس بالشهداء فقط، وهو عين ما حدث فجر الثلاثاء، الموافق الخامس والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول لسنة 2022، عندما اقتحم جنود الاحتلال بلدة نابلس القديمة، فقد توالت الأنباء عن سقوط شهيد تلو آخر، حتى وصل العدد إلى ثلّةٍ لا يؤطّرها رقم، ولا تتسع لها جنان.

وكلما سقط شهيد تساءلت: هل تستحق فلسطين كل هذا الثمن؟ ما الغواية التي تمتلكها هذه الفاتنة لتجتذب كل هؤلاء الشهداء إليها؟ لو كانت محض وطن لطمستها المنافي بعد أن استطالت الغربة وجاوزت عقودًا كفيلةً بمحوها من الوجدان. ولو كانت ذاكرةً لذابت عند أول جيل تلا النكبة والنكسة، غير أنها عصيّة على الطمس والمحو والذوبان، تتناقلها الأجيال بالفطرة، كجينات الوراثة، من دون حاجةٍ إلى الخضوع لتعاليم ودروس.

وتحدثوا تلك الليلة، أيضًا، عن 19 جريحًا في اقتحامات الطارئين على المكان، وعن محاولات انتشال أناسٍ من تحت ركام الأبنية التي قصفها الهمج بصواريخ مضادّة للدبابات، فهل كانت محاولة جديدة لإشاعة الرعب في صفوف فلسطينيي نابلس، كما حدث في غزّة؟ أم أن الصهاينة أدركوا أن الفلسطيني لا يموت كما يموت الآخرون برصاصة وهراوة، بل يحتاج إلى قذيفة مدفع؟

في الحالين، ستظل العقلية العسكرية الإسرائيلية بالغة الغباء، لأنها لم تتعلم الدرس بعد، بدليل أن العنقاء الفلسطينية تخرُج دومًا من بين الرماد، وتستأنف القتال بأشكالٍ جديدة، على غرار "عرين الأسود"، التنظيم الذي ظهر أخيرًا، وشكّل مبعث قلق للقيادة الصهيونية، لأنه لا ينتمي إلى كل الفصائل القائمة، ولا تُعرف له أيديولوجيا، بل يمثل جيلًا جديدًا بمحمولات عفوية وتلقائية، ويتمتع بلامركزية القرار والفعل، بمعنى أن كل فرد فيه حرٌّ في اختيار الهدف والخطة والتنفيذ، ورأينا بعضًا من عملياته التي صدمت المحتلّ، على غرار ما فعله الشهيد عديّ التميمي وغيره.

ربما كان فصلًا من الليل الفلسطينيّ الطويل ما شهدناه تلك الليلة في نابلس "القديمة" تراثًا والجديدة عبقرية وابتكارًا، لكن في المقابل هو ليل طويل، أيضًا، على المحتلّ الذي يخنقه سؤال النهاية كلما اطمأن إلى مجزرة أو عملية عسكرية واسعة، كالتي جرت في نابلس، أو كلما اغتال شهيدًا أو سجن مقاومًا، أو اشترى مفرّطًا ومطبّعًا وخائنًا، أو أقام سلطة من البهاليل والأرجوزات.

في المقابل، لم يعد سؤال النهاية مبعث قلق للفلسطيني الجديد، الذي بات يُعرف أنه محض حلقة في سلسلة شهداء طويلة تنتظر في طابورٍ طويل، وهذا ما يمتاز به مقاتلو المرحلة الحالية، على خلاف أسلافهم من محاربين قدامى قرنوا القضية بأعمارهم، فظنّوا أنهم "البداية والنهاية"، وأن من حقهم وضع حدّ للبندقية متى شاءوا، ومنهم قادة وعدوا أن يقيموا الصلاة في القدس، وبرّوا بوعدهم، لكن صلاتهم لم تكن مقبولة لأنها كانت تحت حراب الاحتلال. وهؤلاء لا يقلّون صدمة عن المحتلّ بـ"عرين الأسود"، ما يعني فشلًا ذريعًا لهذه السلطة التي ظنّت أنها أخضعت الأسود وروّضت النمور، لصالح المحتلّ.

من الراجح، إذن، وفق معطيات الأرض والدمّ، في كبرى المدن الفلسطينية، أن ثمّة إرهاصات لثورة شعبية مسلحة ضدّ احتلالين لم يفهما الرقم الصعب جيدًا، وأن أيّ تسويةٍ لا يؤخذ فيها رأي الشهيد، ولا يحاور فيها الشهيد، ولا يكون الشهيد طرفًا مقرًّرا فيها هي تسوية شوهاء عقيم، هذا إذا قبل الشهيد التسويات والمساومات أصلًا.

لم تمض تلك الليلة بعد، وإن مضت فليس لها غير صباح واحد لن يشرق إلا على الشهداء الذين فتنتهم فلسطين حتى آخر قطرة دم، أما الآخرون فلا صباح لهم بعد اليوم.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.