تركيا والسير وسط حقل ألغام
أعلن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، تنفيذ عمليةٍ عسكريةٍ في سورية لاجتثاث ما أسماه الإرهاب، ما أثار طائفة متنوّعة من ردود الأفعال المحلية والإقليمية والدولية، تجسّدت بمواقف سياسية وتحرّكات ميدانية واسعة، على خلفية تأثير العملية العسكرية المزمعة بالتوازن القائم على الأرض السورية، وانعكاس ذلك على مصالح الدول المنخرطة في الصراع في سورية وعليها، وبالتوازن الجيوسياسي العام.
جاء الإعلان التركي مترافقاً مع حملة إعلامية وسياسية على منظّمات كردية، حزب العمال الكردستاني (التركي)، المصنف منظمة إرهابية في تركيا ودول غربية، بما فيها الولايات المتحدة، وربيبه حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي السوري) وجناحه العسكري، وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة، وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، باعتبارها تهديداً للأمن القومي التركي؛ ومع تحرّك عسكري متصاعد، قصف مدفعي وصاروخي وغارات بالمسيَّرات، على طول خطوط التماسّ مع "قسد"، شمال شرق وشمال غرب نهر الفرات، وقد ربط الإعلان العملية العسكرية بإقامة منطقة آمنة على طول الحدود السورية التركية بعرض 30 كيلومتراً، وبعدم تنفيذ الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية بنود اتفاقيتي عام 2019 معهما، القاضيتين بإبعاد هذه القوات عن الحدود المسافة المتفق عليها، 30 كيلومتراً، واستغلال "قسد" الموقف لتنفيذ اعتداءات على الأراضي التركية واستهداف المدنيين، وبإعادة مليون لاجئ إليها، عودة طوعية، وفق النظام التركي، بحيث تضمن سلامة المنطقة الحدودية والأمن القومي التركي.
لا يعكس الإعلان تغيّراً في الموقف التركي، فالدعوة إلى إقامة منطقةٍ آمنةٍ على طول الحدود السورية التركية أطلقت، منذ عام 2013، باعتبارها أولويةً تركية، في ضوء ما تعتبره خطراً وجودياً تمثله وحدات حماية الشعب، الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي السوري)، ورفضها اعتبار إعادة تحويل وحدات حماية الشعب، الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي، إلى قوات سوريا الديمقراطية، حلاً مناسباً، لأن الأخيرة خاضعةٌ لسيطرة وحدات حماية الشعب، وحزب العمال الكردستاني بالتالي. ولمّا لم تنجح في تحقيق اختراقاتٍ في مواقف الدول المنخرطة في الصراع على سورية من طلبها، اندفعت نحو الدخول في مساوماتٍ ومقايضاتٍ مع القوتين المهيمنتين في الشمال السوري، الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية، في إطار تبادل المصالح، وحصلت على موافقاتٍ على تنفيذ عمليات عسكرية "درع الفرات" و"غصن الزيتون" و"نبع السلام"، احتلت عبرها مساحات واسعة هناك، حوالى 10% من الأرض السورية. ولكن من دون أن تعتبر ما تحقق كافياً لأمنها، في ضوء الدعم العسكري والمالي الأميركي الكبير والمتواتر لـ"قسد"، وهيمنة حزب العمال الكردستاني التركي على مفاصل القرارين، السياسي والعسكري، في "الإدارة الذاتية" الكردية شرق الفرات.
الدعوة إلى إقامة منطقةٍ آمنةٍ على طول الحدود السورية التركية أطلقت منذ 2013، باعتبارها أولويةً تركية
دفع الإعلان التركي الدول والقوى السياسية والعسكرية المحلية إلى التعبير عن مواقفها من العملية العسكرية المزمعة، وإلى القيام بخطوات ميدانية على الأرض، من استنفار قواتها، إلى نقل قوات وأسلحة وذخائر إلى نقاط التماسّ والمواقع التي يتوقع أن تكون هدفاً للهجوم الموعود، وتعزيزات تركية لمواقعها على خطوط التماسّ، واستنفار قوات الجيش الوطني السوري، الموالي لتركيا، وإجرائه مناوراتٍ بالذخيرة الحية استعداداً للمشاركة في العملية العسكرية، واستنفار "قسد" على خطوط التماس، واستقدام قوات النظام تعزيزات إلى منطقة عين عيسى شرق الفرات، وتل رفعت ومنبج غرب الفرات، وتحريك مليشيات إيرانية نحو مواقع متقدّمة على خطوط التماسّ في ريف حلب الشمالي الغربي، إرسال عتاد أميركي من كردستان العراق إلى القواعد الأميركية شرق الفرات، وإرسال تعزيزاتٍ عسكرية روسية إلى شرق الفرات (مطار القامشلي بشكل رئيس)، وقاذفات قنابل ومروحيات قتالية وصواريخ مضادّة للطائرات متوسطة المدى من طراز بانتسير- إس1، مع تسيير دوريات برّية وأخرى جوية على طول الحدود السورية التركية، تعبيراً عن مواقفها من العملية العسكرية، وتحسباً لانعكاساتها المحتملة على مصالحها في سورية والإقليم.
جاء الإعلان التركي في لحظةٍ سياسيةٍ حبلى بالفرص والمخاطر، حيث أتاح لها موقعها الجيوسياسي وعضويتها في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وعلاقتها القوية بروسيا وأوكرانيا التحرّك لالتقاط الفرصة التي فتحها الغزو الروسي لأوكرانيا وحاجة دول الحلف لمشاركة تركية أكبر في محاصرة روسيا وتطويقها، من جهة، وحاجة روسيا إليها لإضعاف العقوبات الغربية عليها عبر إبقاء أبوابها مفتوحة لها، اقتصادياً، وتوظيف العلاقة معها في الاتصالات الدبلوماسية مع أوكرانيا، من جهة ثانية، والمناورة بأوراقها لتحقيق مكاسب في أكثر من ملفّ، بدءاً من قبول طلبها شراء 40 طائرة أميركية من طراز إف 16، وتحديث ما تملكه منها من الأجيال القديمة، والسعي للعودة إلى المشاركة في إنتاج طائرة إف 35 وإتمام صفقة المائة طائرة التي طلبتها منها، ودفعت جزءاً من ثمنها، 1.5 مليار دولار، ومحاصرة حزب العمال الكردستاني وجماعة الخدمة، التي يتزّعمها فتح الله غولن، بالضغط على دول في الحلف، لوقف التعاطف والتعاون معهما، عبر ربط سحب اعتراضها على انضمام فنلندا والسويد إلى الحلف بتحقيق هذه المطالب، والضغط على الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية لقبول فكرتها بإقامة منطقة آمنة على طول الحدود السورية التركية، عبر الحصول على ضوء أخضر لتنفيذ العملية العسكرية. غير أن الفرص المتاحة قابلتها مخاطر كثيرة، حيث استدعى التصعيد التركي ردود فعل الدول الأخرى التي عبّرت عن مواقفها مما يحصل، ومما قد يحصل، إذا نُفِّذ التهديد التركي، وتحرّكت لاحتواء التحرّك التركي السياسي والعسكري للحفاظ على التوازن القائم، والحدّ من فرص تركيا في فرض مطالبها وتكريس نفسها قوة دولية. من هنا جاء الاعتراض الأميركي المباشر والصريح على تنفيذ العملية العسكرية، عبر كلام صريح وعلني، وحشد قوات وتسيير دوريات على الحدود السورية التركية، والتعبير عن دعمها القوي لانضمام فنلندا والسويد إلى الحلف، مع التلويح بتقديم جائزة ترضية لتركيا بتمرير صفقة طائرات إف 16.
اعتماد الحل العسكري سيبقي المسألة الكردية جرحاً نازفاً يستنزف جهود دول المنطقة وشعوبها وإمكاناتهما
لم تكتفِ روسيا بالتحرّك الميداني لردع التحرّك التركي، على خلفية الحفاظ على التوازن القائم، خصوصاً أن أي تغيير في التوازن سيجيّر لمصلحة الولايات المتحدة، بل توسّعت في الإجراءات من أجل تجيير نتائج تحرّكها لمصلحة النظام السوري، عبر إشراكه في المساومات على مستقبل المنطقة، بدفعه إلى إرسال قواتٍ إلى نقاط التماسّ وتسيير دورية مشتركة مع قوات النظام و"قسد"، ودفع الأخيرة إلى التفاهم معه، ونشر موارد عسكرية روسية كبيرة، طائرات قاذفة ومروحيات قتالية ومسيّرات وأسلحة ثقيلة ومتوسطة، وتسيير دوريات برّية وجوّية على طول نقاط التماسّ، وإرسال وفد سياسي وعسكري إلى تركيا، سيصل اليوم (8 يونيو/ حزيران)، بمشاركة وزير الخارجية، سيرغي لافروف، للتفاهم على الموقف، والضغط على تركيا للتخلي عن العملية العسكرية، عبر مطالبتها بتنفيذ بنود اتفاق سوتشي القاضية بالفصل بين الفصائل المسلحة المعتدلة والمتشدّدة وفتح طريق إم 4 من دون استبعاد حصول مقايضة بين تل رفعت وجبل الزاوية. إيران هي الأخرى لم تقف مكتوفة الأيدي، حيث حشدت مليشياتها إلى جوار قوات النظام و"قسد" في شمال ريف حلب، قرب تل رفعت، و"قسد" بدورها حشدت قواتٍ وسرّعت عمليات تحصين المواقع عبر حفر أنفاق وإقامة سواتر ترابية. وهذا دفع النظام التركي إلى تحديد المساحة المستهدفة بالعملية في تل رفعت ومنبج الواقعتين غرب الفرات، واللتين تحسبان على مناطق النفوذ الروسي، في محاولة لإضعاف التحفظ الأميركي الذي لن يعترض على أي تحرّك ضد المصالح الروسية. غير أن فرص نجاح هذه المناورة غير واضحة، في ضوء التوجّه الروسي لتفنيد الدعاية الغربية حول انهيار القوات الروسية تحت وقع ضربات الجيش والمقاومة الأوكرانية، وإثبات عدم صحة ذلك، عبر لعب دور في الاشتباك بشأن العملية العسكرية التركية، واستغلال سخونة الموقف بتعزيز حضورها شرق الفرات لمنافسة الحضور الأميركي فيه، والبرهنة على قدرة قواتها من خلال الانخراط في أكثر من معركة في الوقت نفسه.
رجّح محللون ومعلقون سياسيون أن تكتفي تركيا بالضغط السياسي والقصف البري والجوي للدفع بمطالبها إلى الطاولة وتحقيق مكاسب معينة على طريق إقامة المنطقة الآمنة من دون اجتياح برّي. فيما رأى محللون ومعلقون آخرون أن تراجع فرص تحسّن الاقتصاد دفع النظام التركي إلى تحريك ورقة المنطقة الآمنة، لتحقيق مكسب "قومي" يسجّل لمصلحته، فيحسّن صورته ويزيد شعبية رئيسه، قبيل الانتخابات الرئاسية عام 2023، ما رجّح لديهم تنفيذ العملية العسكرية المزمعة.
أياً كان الرأي الراجح، فإن عملية عسكرية محدودة أو واسعة لن تغلق ملف القضية الكردية، لا في تركيا ولا في الدول الأخرى، بل سيُبقيها اعتماد الحل العسكري جرحاً نازفاً يستنزف جهود دول المنطقة وشعوبها وإمكاناتهما؛ يفقدها استقرارها وفرص ازدهارها، وإن الحل بالجلوس إلى طاولة التفاوض والتفاهم مع القادة الكرد على حل توافقي. وهذا يستدعي من هؤلاء إدراك مخاطر اللحظة السياسية ودقة خياراتهم وممارساتهم التي قادت إلى وقوعهم تحت ضغوط كبيرة من أكثر من طرف، وأن ينحازوا إلى خيارات واقعية، حتى لو كانت لا تلبّي كل تطلعاتهم المشروعة.