تركيا إلى أي خيارات بعد تحالفات الانتخابات ووعودها؟

14 مايو 2023

مؤيدون لحزب العدالة والتنمية التركي في تجمع انتخابي في إسطنبول (12/5/2023/ Getty)

+ الخط -

يتوجّه حوالى 61 مليون ناخب تركي، اليوم الأحد (14 مايو/ أيار الجاري)، إلى أكثر من 191 ألف صندوق اقتراع موزّعة على 87 دائرة انتخابية داخل تركيا، للإدلاء بأصواتهم في أهم انتخابات عامة، رئاسية وبرلمانية، في تاريخ تركيا، بالنظر إلى أن نتائجها ستحدّد وجهة تركيا المستقبلية، حيث تعلّق المعارضة آمالها على إلحاق الهزيمة بالرئيس رجب طيب أردوغان، وإعادة البلاد إلى النظام البرلماني في حال فوزها، فيما يطمح الأخير إلى الفوز بها ليستكمل مشواره في الحكم، الذي بدأ بعد فوز حزب العدالة والتنمية في انتخابات عام 2002. كما أن هذه الانتخابات، التي تعد الثانية وفق النظام الرئاسي الذي أُقرّ في عام 2017، تجرى وسط حالةٍ من الاستقطاب الشديد في تركيا، وتحظى بمتابعة واهتمام كبيريْن على المستويين الدولي والإقليمي، كونها ستحدّد توجّهات تركيا المستقبلية، وطبيعة الدور الإقليمي، الذي ستقوم به في ظل التغيرات والظروف الجيوسياسية الإقليمية والدولية. وبالتالي، بات السؤال، الذي يطرح في داخل تركيا وخارجها: ما الذي ستحمله هذه الانتخابات؟

المشهد الانتخابي

تتزامن هذه الانتخابات مع الذكرى المئوية الأولى للجمهورية التركية، ما يعطيها وزناً معنوياً ورمزياً إضافياً، وتُجرى وفق النظام الرئاسي كل خمس سنوات، بحيث تكون ولاية الرئيس خمس سنوات، وولاية البرلمان أيضاً خمس سنوات. ويواجه الرئيس أردوغان، مرشّح "تحالف الجمهور" وزعيم حزب العدالة والتنمية، في الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة المقبلة منافسيْن: مرشّح "تحالف الأمة" المعارض وزعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كلجدار أوغلو، ومرشّح تحالف "أتا" أو الأجداد اليميني المتطرّف سنان ودغان، وذلك بعد انسحاب مرشّح حزب "البلد" محرم إنجيه، الخميس الماضي. فيما سيخوض الانتخابات البرلمانية، التي ستجرى في اليوم نفسه مع الانتخابات الرئاسية، 24 حزباً و152 مرشّحاً مستقلاً، لانتخاب أعضاء البرلمان (600 عضو)، حيث ستخوضها معظم الأحزاب المتنافسة ضمن قوائم مشتركة في خمس تحالفات رئيسية: "تحالف الجمهور"، الذي يضم أحزاب العدالة والتنمية، والحركة القومية، والاتحاد الكبير، والرفاه الجديد، وتدعمُه أحزابٌ أخرى من خارجه، و"تحالف الأمة" المعارض الذي يضمّ أحزاب الطاولة السداسية، وهي الشعب الجمهوري، والجيد، والسعادة، والديمقراطية والتقدّم، والمستقبل، والديمقراطي، و"تحالف الجهد والحرية" الذي يضم أحزاباً يسارية يقودها حزب الشعوب الديمقراطي، و"تحالف أتا" أو الأجداد الذي يضم أحزاباً يمينية يقودها حزب النصر المعادي للاجئين، و"تحالف اتحاد القوى الاشتراكية" الذي يضم حزب الحركة الشيوعية والحزب الشيوعي التركي والحزب اليساري.

يُظهر المشهد الانتخابي أن أهم ما يميّز هذه الانتخابات الحاسمة التركيز على التحالفات بين أحزاب مختلفة في الإيديولوجيات والأطروحات السياسية، بمعنى أن ما يجمعها يتركّز على ضرورات الفوز في العملية الانتخابية، حيث انقسمت الأحزاب والتيارات القومية بين التحالفات المتنافسة، فآثر حزب الحركة القومية، بقيادة دولت بهجلي، البقاء في تحالفه حزب العدالة والتنمية، ضمن تحالف الجمهور، الذي انضم إليه حزبان قوميان هامشيّان، الوحدة الكبرى والوطن، فيما بقي حزب النصر، القومي المتطرّف، وحده خارج التحالفات، ولا يطرح سوى ورقة طرد اللاجئين السوريين من تركيا وترحيلهم إلى بلدهم. وذهب الحزب الجيّد، القومي، بزعامة ميرال أكشنر إلى تحالف الأمة المعارض، مع وجود عناوين أخرى. وجمع تحالف الطاولة السداسية أحزاباً سياسية ذات إيديولوجيات متنافرة، علمانية وقومية وإسلامية وليبرالية، وانفتح هذا التحالف على حزب الشعوب الديمقراطي ذي الغالبية الكردية. في المقابل، تحالف حزب العدالة والتنمية مع حزب هدى بار، الإسلامي الكردي ذي الميول الإيرانية. كما شهدت الخريطة الانتخابية تحالفاً بين حزبي السعادة الإسلامي التوجّه، والشعب الجمهوري العلماني التوجّه، وجمعت بين حزبي العدالة والتنمية، الإسلامي المحافظ، واليسار الديمقراطي، الذي ترشّح زعيمه ذو الخلفية الماركسية لمقعد نيابي على قائمة "العدالة والتنمية".

تتزامن الانتخابات مع الذكرى المئوية الأولى للجمهورية التركية، ما يعطيها وزناً معنوياً ورمزياً إضافياً

غير أن التحالفات الحزبية التي تشكّلت لضرورات انتخابية، وأفضت إلى نشوء تحالفاتٍ حزبيةٍ، جمعت بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، والقومي المتشدّد مع الليبرالي المنفتح، لا تعني انفراط عقد الانقسامات الاجتماعية التقليدية القومية في المجتمع التركي، التي تنهض على دوافع وأسس هوياتية، علمانية ومحافظة، ويمينية ويسارية، وقومية: تركية وكردية، وحتى سنّية وعلوية، على الرغم من أنها ليست ثابتة على الدوام.

وأسهم في تعميق التحالفات الحزبية اعتماد تركيا نظام التمثيل النسبي، الذي يقوم على تزكية التحالفات الانتخابية، ويتم من خلاله توزيع عدد الأصوات التي حصلت عليها كل قائمةٍ مشتركةٍ على عدد الأحزاب فيها، بما يضمن المواءمة بين دقّة التمثيل والاستقرار. لكن على الرغم من تخفيض قانون الانتخاب البرلمانية الذي عدّل عام 2022، من عتبة دخول الأحزاب والتحالفات البرلمان من 10% إلى 7% من مجمل الأصوات في تركيا، الأمر المفترض أن يصبّ في مصلحة الأحزاب الصغيرة، لكن معظمها لم يفضّل الدخول في قوائم منفردة لخوض الانتخابات البرلمانية، مثلما فعلته أحزاب تحالف الأمة المعارض التي اختارت القوائم المشتركة مع حزب الشعب الجمهوري، فيما ضمّ "العدالة والتنمية" مرشّحين من حزب اليسار الديمقراطي والدعوة الحرّة، الإسلامي الكردي، في قوائمه للانتخابات البرلمانية، وذلك بالنظر إلى أن قانون الانتخابات بات يسمح للأحزاب الصغيرة بالدخول في قوائم الأحزاب الكبيرة في قوائم مشتركة، الأمر الذي يمنحها فرصةً في الدخول إلى البرلمان، حتى ولو لم تتجاوز العتبة الانتخابية، وبالتالي، لن تحصل الأحزاب الكبيرة كما في السابق على مزيد من المقاعد الإضافية التي كانت تخسرها الأحزاب الصغيرة.

البرامج والوعود

أطلق كل من أردوغان وكلجدار أوغلو وعوداً انتخابية عديدة، بغية جذب عدد أكثر من الناخبين الأتراك، خصوصاً الشباب والمتردّدين. وتفاهمت الأحزاب التركية على أن تكون أجواء الحملات الانتخابية هادئة، من دون إطلاق هتافاتٍ مستفزّة وموسيقا صاخبة، احتراماً لضحايا كارثة الزلزال الذي ضرب الجنوب التركي في 6 فبراير/ شباط الماضي. لكن هذا التفاهم لم يمنع تحوّلها إلى معركة سياسية صعبة، سيكون قرار الناخب فيها تحت تأثير الأزمة الاقتصادية والمعيشية، وارتدادات كارثة الزلزال، وورقة اللاجئين السوريين، وملفّ السياسة الخارجية التركية. لذلك لجأ التحالفان الرئيسيان، الجمهور والأمة، إلى إطلاق برنامجيهما مبكّراً، قبل بدء حملتيهما الانتخابيتين، حيث خرجت أحزاب الطاولة السداسية في 30 يناير/ كانون الثاني الماضي، ببرنامجها الذي حدّد التوجّهات والسياسات المشتركة، وشمل البرنامج المؤلف تسعة عناوين رئيسية و75 عنواناً فرعياً طاولت مختلف المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وركّز البرنامج على تغيير نظام الحكم الرئاسي المعمول به حالياً، واستعادة نظام الحكم البرلماني "المعزّز من أجل نظام قوي ليبرالي وديمقراطي عادل، يتم فيه الفصل بين السلطات مع هيئة تشريعية فعالة وتشاركية، وسلطة تنفيذية مستقرّة وشفّافة وخاضعة للمساءلة، وقضاء مستقل وحيادي".

 كان لافتاً أن يتطرّق كلجدار أوغلو إلى أصله العلوي، بهدف استمالة أصوات العلويين والأقليات في تركيا

وتعهّد كجدار أوغلو بالعمل من أجل رفع مستوى معيشة المواطنين، وعدم ترك أي أسرة تعيش تحت خط الفقر، ووعد باستعادة استقلال البنك المركزي، والقضاء على نظام حكم الرجل الواحد. وقدَّم وعوداً اقتصادية بجذب استثمارات بقيمة 300 مليار دولار من الخارج للاقتصاد التركي، وتحديث سرعة الإنترنت في تركيا لتصل إلى ألف ميغابايت في الثانية. أما حزب العدالة والتنمية (الحاكم) فقد أعلن برنامجه الانتخابي في 11 إبريل/ نيسان الماضي، تحت عنوان "قرن تركيا"، وخصّص معظم بنوده الـ 11 للملف الاقتصادي، ووعد الأتراك برفع نصيب الفرد من الدخل القومي في الفترة المقبلة إلى 16 ألف دولار سنوياً، ونقله إلى مستويات أعلى، وتعهّد بالمحافظة على الأمن القومي التركي، ومحاربة الإرهاب، والسعي إلى رفع حجم التجارة الخارجية لتركيا إلى تريليون دولار، وجذب 90 مليون سائح. وقدَّم أردوغان خلال الأشهر الماضية حوافز اقتصادية وصفتها أوساط المعارضة بالرشى الانتخابية، إذ أعلن عن رفع الحد الأدنى ليبلغ ثمانية آلاف و500 ليرة تركية (443 دولاراً شهرياً)، ووعد برفع أدنى راتب للعاملين في القطاع الحكومي إلى 15 ألف ليرة تركية (حوالي 768 دولاراً)، بدءاً من شهر يوليو/ تموز المقبل، وبتوفير الغاز الطبيعي مجّاناً إلى المنازل بما يصل إلى 25 متراً مكعباً شهرياً مدة عام. كذلك دشّن وافتتح مشاريع عديدة كبيرة، أراد منها التذكير بالإنجازات الاقتصادية التي حققها في السنوات الماضية، حيث تسلم مفتاح أول سيارة كهربائية تركية، وافتتح مركز إسطنبول المالي، وشارك بوضع حجر أساس محطة الطاقة النووية "آك كويو" التي تبنيها روسيا، ووضع حجر الأساس لإنشاء 17 ألفاً و902 من الوحدات السكنية في المناطق التي تعرّضت لكارثة الزلزال. في المقابل، وعد كلجدار أوغلو بتلبية احتياجات منكوبي الزلزال، وباستعادة 418 مليار دولار جرى تهريبها إلى خارج تركيا، وتعزيز قيمة الليرة التركية، وتحسين أوضاع الموظفين والفلاحين وصغار التجار والمتقاعدين، ومحاربة الفساد، واستعادة 418 مليار دولار جرى تهريبها إلى الخارج، وتعزيز قيمة الليرة التركية، والقضاء على عصابات المافيا والمخدّرات، وسوى ذلك.

خيارات الناخبين

لا تشكّل البرامج والوعود الانتخابية العامل الحاسم في تحديد خيار الناخب التركي، إذ لا تهتم الغالبية العظمى منهم بها أو بالأحرى لا تطّلع عليها، لأن خيارات الناخبين لا تبنى على البرامج السياسية المتنافسة، بل تحدّدها في الغالب الانتماءات والهويات الاجتماعية، التي يختلط فيها الأهلي بالمناطقي والإيديولوجي والسياسي والطبقي، وسوى ذلك. وتلعب أصوات الأجيال الجديدة والمتردّدين دوراً مهماً في الإجابة عن سؤال ما الذي ستحمله الانتخابات العامة الأحد المقبل، إذ يُشكل الجيل Z (شباب بين 18-25 عاماً) نحو 13% من الناخبين الأتراك. يضاف إلى ذلك وجود عوامل قد تؤثّر على قرار الناخب التركي، أو على ما يمكن أن يحدّد خياراته في اللحظة الأخيرة.

خيارات الناخبين لا تبنى على البرامج السياسية المتنافسة، بل تحدّدها في الغالب الانتماءات والهويات الاجتماعية

وكان لافتاً أن يتطرّق كلجدار أوغلو إلى أصله العلوي، بهدف استمالة أصوات العلويين والأقليات في تركيا، والاستفادة من التذكير بالمذبحة التي شهدتها ولاية تونجلي (درسيم سابقاً)، مسقط رأسه، بين عامي 1937 و1939، والتي كان أردوغان أوّل رئيس تركي يعتذر رسميّاً عنها. وذهب كلجدار أوغلو إلى التعبير عن رغبته في تعميم اللغة الكردية لغة ثانية في تركيا، وحلّ القضية الكردية نهائياً في البرلمان، الأمر الذي أثار امتعاض الأوساط الدينية المحافظة والقومية واليمينية المعادية للأقليات. في المقابل، شارك أردوغان في ملتقى "الإفطار التقليدي للغجر" في إسطنبول، ووعد الغجر بحلّ مشكلاتهم، وأكد رفضه جميع المقاربات العنصرية حيالهم، ودعمه لهم في المجالات كافة.

أخيراً، تنحصر المنافسة على مستوى الرئاسة بين أردوغان وكلجدار أوغلو، على الأرجح، بالنظر إلى القدرات الشخصية والعملية لكل منهما، وهناك توقّعات بعدم تمكّن أحد المرشّحين الأربعة في معركة الرئاسة من الحصول على نسبة 50 +1، من مجموع الأصوات في الجولة الأولى، وبالتالي، سترحّل نتائج المواجهة في جولة الإعادة بين المتنافسيْن اللذين حصلا على أكبر نسبة من الأصوات في 28 مايو/ أيار المقبل. وتمنح هذه الحال الرئيس أردوغان فرصة للفوز بفترة رئاسية جديدة أكبر من منافسه، مع احتمال فوز تحالف المعارضة بالتنسيق مع حزب الشعوب الديمقراطية بالأغلبية البرلمانية، لكنها ستكون أغلبيةً ضعيفة، بحيث لا تمنحه إمكانية تعديل الدستور أو حتى الذهاب إلى استفتاء شعبي، الأمر الذي سيعيق أردوغان من تمرير قرارات وقوانين حكومته الجديدة. ويبقى أن كل الاحتمالات مفتوحة، وتتوقف على خيارات الناخبين الأتراك.

5BB650EA-E08F-4F79-8739-D0B95F96F3E1
عمر كوش

كاتب وباحث سوري، من مؤلفاته "أقلمة المفاهيم: تحولات المفهوم في ارتحاله"، "الامبراطورية الجديدة: تغاير المفاهيم واختلاف الحقوق".