ترجّل محمد أبو الغيط ولم تنته القصة
فتحت وفاة الكاتب المصري محمد أبو الغيط الباب أمام طوفان من المشاعر الإنسانية، بشكل غير مسبوق، فربما لم تتفق النخبة المصرية في المنفى على أمر ما، على مدار حقبة الكراهية البشعة، إلا على الحزن الذي صَاحب خسارة هذا الشاب، كما شعر من لم يعرف أبو الغيط أن خسارته أعمق.
مرّ الفارس سريعاً، لكنه كما كان يريد ترك أثراً لامعاً سيظل باقياً، يناطح مكوناته وشخوصه، ويدعم المستضعفين ويلهمهم، ربما سيتجاوز قيم المهنية والنبوغ والبحث عن الحقيقة والتقصّي ورأب الصدع، فلن يُنسى ما كتبه من معانٍ إنسانية وأسرية نبيلة خلال معاناته مع السرطان وتحدّيه هذا المرض.
بدأت علاقتي الشخصية بمحمد حينما نزلت ضيفاً عليه في شقته القديمة بإحدى ضواحي لندن، بعد تواصل لم ينقطع عبر الهاتف أو المداخلات التليفزيونية في تلفزيون العربي، وبالتحديد في برنامج "بتوقيت مصر" الذي كان محمد أحد معدّيه الرئيسيين. ولن أتحدّث عن كرم الضيافة وتركه شقته بكاملها لي، وخروجه لقضاء إجازة أسرية مع ابنه يحيى وزوجته إسراء خارج لندن، وقد عمّقّت تلك الزيارة من صداقتنا، وزادت من ثقتي به.
أُدرك أن هناك فروقاً كبيرة بين أن يكون الإنسان صحافياً وأن يكون حقوقياً إلا أن محمّد تجاوزها، وبرع في الصحافة الاستقصائية، الأقرب إلى الشأن الحقوقي، ساعدته في ذلك طبيعة شخصيته الاستفهامية دائماً، ونهمه إلى المعرفة والاستفسار والتساؤل ورغبته في توثيق المعلومة والجدل من أجل الوصول إلى المعرفة.
فروق كبيرة بين أن يكون الإنسان صحافياً وأن يكون حقوقياً إلا أن محمّد تجاوزها
لم تتوقف نقاشاتنا عبر الهاتف فيما يخص الشأن الحقوقي، كان يطرح تساؤلاتٍ تنّم عن وعي وإدراك وإلمام بطبيعة العمل ومدى أهميته.. تحدثنا عن أعداد المعتقلين، بعيداً عن مدى التوافق والاختلاف مع العدد المعلن، كان يريد أن يصل إلى توثيق دقيق، ويشكك في أرقام عديدة صادرة من منظمات من دون أن يكون لها سند توثيقي منشور وواضح يمكن الاعتماد عليه.
أتذكّر أيضا سجالنا بشأن أهمية أعمال التواصل مع البعثات والدول في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وأهمية التقارير والتوصيات التي تصدر من حين إلى آخر، وسؤاله عن جدّيتها وأهميتها، ونظرة النظام في مصر إليها، ومدى احترامها تجاوبه معها، وجدّية نظرية التغيير المرتبطة بتتابع الضغوط الخارجية على النظام، وهل هي استقواء بالخارج؟… وكلها أسئلة اعتقد أنها لا تصدر إلا عن شخصٍ مدقق وواع.
كنت محظوظاً، أيضاً، لأنني من القلائل الذين كان يخصّهم محمد بالتساؤلات والاستفسارات عن الأوضاع القانونية والانتهاكات التي تتم ضده، وضد أفراد أسرته وأسرة زوجته إسراء في مصر من الأجهزة الأمنية، كان على الدوام يخشى أن يكون ذلك بسبب عمله ونشاطه المهني هو، وليس والده، رغم نشاط والده (سابقاً) والمعروف بانتمائه السياسي.
تعرّض محمد أبو الغيط للتمييز والرفض في بلاده القمعية، رغم مهنيته وعدم انتمائه السياسي لأي فئة أو فصيل
لم يتوقّف الأمن المصري حتى وقت قريب عن التعرّض لمحمد أبو الغيط وأفراد أسرته، وتم وقف زوجته في المطار ولم يُسمح لها بالسفر إلا حينما زعمت أنهما على وشك الانفصال، وتم اعتقال والدة زوجته (رحمها الله) والتضييق على إخوته. في المقابل لم يستخدم محمد تلك المعاناة في تلميع نفسه أو المتاجرة بالقمع الواقع ضده مثلما يفعل عدد من نشطاء المعارضة في الخارج، دائماً ما كان يخفي أموره الشخصية في أعماق نفسه، ولا يصرّح بها، حتى بدا أن نبوغه وجوائزه العالمية المرموقة تستند إلى استقرار حياتي وأسري، ولولا ما كتبه في سنوات مرضه، ما تغيرت تلك الانطباعات.
وفي آخر مكالماتي معه وهو طريح الفراش في الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني) أبدى استغرابه من استهداف النظام له وأسرته، وفي الوقت نفسه، يعمل على تكريمه في منتدى مصر للإعلام. التكريم الذي تم بإيعاز من الصحافيين الأمنيين المقرّبين من السلطة، الذين حاولوا المتاجرة بآلامه وقصة صموده، بعدما لاقت كتاباته في الفترة التي سبقت وفاته رواجاً كبيراً، في ثنائية أمنية وانفصام وعُهر أخلاقي لا تفسير له. سياستان ضد الشخص نفسه، قمع وتهجير.. إشادة وتكريم. وعلى الرغم من ذلك، كان يود العودة والسفر، لكنه لم يتلق التطمينات التي تفتح أبواب مصر المغلقة أمامه. كانوا يريدون اختزال مرثيته في قصة مريض السرطان النائم على فراش وثير في أحد مستشفيات لندن، يتحدّث عن الإنسانيات وتجارب الحياة وفقط، لكنهم لم يسمحوا له بالعودة قط!
فتح محمد أبو الغيط، في أيامه الأخيرة، صندوق ذكرياته وأسراره، كما لم يفتحهما من قبل. تحدث عن أبيه وأمه "شمس وقمر في مهمة إنقاذ"، وعن زوجته إسراء، "وردتي البيضاء الخارقة". تحدث عن معاناته الصادمة مع السرطان الوباء الأسود، حتى وصل إلى حد اعتبار نفسه يتساقط بالتدريج، ويموت بالتقسيط.
كتب مناشدة للتدخل للإفراج عن والد زوجته، السيد حسن شهاب الدين، عميد كلية الهندسة في جامعة حلوان المعتقل منذ سبتمبر/ أيلول 2019، والذي يستمر تدوير القضاء له في جزيرة القمع، رغم تبرئة محكمة النقض له في 11 يونيو/ حزيران 2021. طلب أبو الغيط الإفراج عنه رحمة بإسراء، حتى لا تفجع بوالدها، كما فجعت بوالدتها التي توفيت منذ سنتين بالسرطان أيضاً، وستُفجع لاحقاً بزوجها.
كل من دفن معاناة أبو الغيط في صدره وكفّنها بحزنه مُطالب بأن يستمر على طريقه لفتح نفق للحرية في جدار الديكتاتورية
لم يترك أبو الغيط، في خطواته الأخيرة نحو الضوء، شيئاً تأثر به، ولم يودعه، حتى حديقته المتواضعة التي نشر صوره وهو يحمل محصولها بفخر، إلا بلده الذي نفاه، وحرمت عليه الكتيبة الحاكمة أن يعود ليودع، فمات محروماً يرمق طيفه. عانى، كما كتب، في استبيانٍ نشر بعد وفاته، "الخوف المُبهم..". قال: "لم يتم القبض عليّ أو تهديدي بشكل مباشر، لكن أنت ترى كل يوم حولك من يُقبض عليه أو يختفي أو يجد نفسه فجأة متورّطاً بقضية. وفي مجال عملي الصحافي كانت الساحة تضيق تدريجياً. تعرّضت شخصياً لملاحظات وتلميحات عديدة من مديريّ حول توجهاتي السياسية، ثم بدأنا نسمع إشاعات عن أن قضية اعتقالي ببداية الثورة سيُعاد فتحها، وذهبت قوات الأمن لمنزل أحد زملائنا بالقضية فعلاً. لم أكن مستعداً للانتظار حتى يحدث الأذى بالفعل، وفي 2015 حصلت على فيزا، وسافرت إلى أوروبا". وأضاف: "كنت بشتغل في مجال عمل يجعلني متابعاً للأوضاع الحقوقية والاجتماعية، أصابتني الأخبار بما يُشبه اكتئاباً دائماً، حالات الفصل من العمل والتجويع لأشخاص كبيرة في السن وشكواهم المؤلمة، حالات التعذيب والقتل والاختفاء القسري اللي كنت بتابعها وبعرف تفاصيلها، كانت سبب في نوم مضطرب دائم وكوابيس مفزعة وهم وزعل وخوف دائم، حالتي المادية والمعيشية كانت بتزيد سوء يوم بعد يوم نتيجة الاستهداف من الدولة، حتى جاءتني فرصة السفر وقدرت أسافر". وتابع: "لن أعود قريباً بأي حال. لم يكن لدي أي مشكلة أمنية، لكنه ذلك الرعب المبهم في مصر. سأعود فقط حين تحدُث انفراجة سياسية واضحة، سواء بتغير الرئيس الحالي، أو بانفتاح المجال السياسي بشكلٍ ما، خروج المعتقلين وعودة هامش من الديموقراطية".
تعرّض محمد أبو الغيط للتمييز والرفض في بلاده القمعية، رغم مهنيته وعدم انتمائه السياسي لأي فئة أو فصيل، ورغم مطالباته، الدائمة، بكشف الحقائق من منطلق حيادي، وعدم انحيازه للطرف الذي وقع الانقلاب ضده، كما أنه لم يكن يُدخل مشكلاته الشخصية في تقييماته السياسية أو آرائه وأطروحاته وهذا سر تميزه.
عاش أبو الغيط ومات ضحيةً للقمع، لم تكن معركته التي سماها أحد الإعلاميين من ضيوف برنامجه "صراع الغيلان" مُنصّبة على السرطان، لكن القمع كذلك، أيضاً، والذي ألقى به في تغريبة عابرة للقارّات بعيداً عن أسرته وأهله ليموت طريداً شريداً.
كل من دفن معاناة أبو الغيط في صدره وكفّنها بحزنه مُطالب بأن يستمر على طريقه لفتح نفق للحرية في جدار الديكتاتورية العفنة، فالتحرّريون أوْلى ببلادهم وديارهم، أوْلى بنبوغهم ومآل العسكر إلى الثكنات أو خارج التاريخ.