تربية للعرب وللكرد

10 يوليو 2016

(محمد عمران)

+ الخط -
أرجو من السادة القراء أن يأخذوا علماً بأنني كنتُ، وما زلتُ، متعاطفاً مع المواطنين السوريين الكرد الذين دأب حافظ الأسد على حرمانهم من حقوقهم المختلفة، طوال حكمه الانقلابي الذي امتد مع وريثه القاصر أكثر من أربعين عاماً. وكما تعلمون، فقد أحدثَ الوريثُ القاصر بشار الأسد، بحربه المتواصلة على الشعب السوري، منذ أكثر من خمس سنوات، حالةً من الفوضى، واختلاط المفاهيم، وضياع القيم، جَعَلَتْ بعضَ الإخوة الأكراد يتربّصون لأي عربيٍّ ينتقد سياسات أحزابهم، فيقولون له: اخرس، فأنت (عَفْلَقي)، بعثي، تربية حافظ الأسد.

لـ(التربية) لدى الشعب السوري مفهومان متناقضان، ففي اللغة العربية الفصيحة، تعني التربيةُ تقويمَ السلوك، وتهذيبه، وتَرصيعه بمكارم الأخلاق. وفي العامية، يقال: فلان رَبَّى فلاناً.. أي أخضعه، وأركعه، وجعل كلماته المفضّلة: نعم، تحت أمرك، كما تشاء، حاضر يا معلم.. إلخ.

بهذا المعنى، أحبُّ أن أعترف لمواطنيَّ الكرد بأن حافظ الأسد (رَبَّانا) جميعاً، بمختلف أدياننا وقومياتنا ومذاهبنا، حتى أصبح من النادر العثور على شخصٍ، حتى ولو كان كاتباً مشهوراً، قليل التربية إلى حدّ أن يجرؤ على الإفصاح بما في نفسه تجاه هذا القمع الأسدي الذي يتجاوز حدود الإرهاب.

كنا، بسبب هذه (التربية)، نتحفّظ على أقوالنا في المجالس العامة، لأنها ملأى بالمخبرين والعواينية، ونتعمّد أن نقول أفكاراً وجملاً مُعَدَّة للتصدير، معاكسةً لقناعاتنا. وأما المجالسُ الخاصة فيكون السقف فيها عالياً، ولا سيما إذا كان الحاضرون موثوقين... وفي كل الأحوال، كان الحديث عن حافظ الأسد، أو وريثه، أو أي فرد من أسرته، يحتاج إلى نوعٍ من الشجاعة الأقرب إلى التهور، أو الجنون، وأنا دأبتُ على التندّر بموقف لصديقي الأديب الراحل، تاج الدين الموسى، الذي كان يريد أن يذهب إلى مطبعة العمل الشعبي في إدلب، ويتشاجر مع العامل الذي طبع صورة بشار الأسد، وكتب تحتها كلمة (منحبك)... حاولتُ أن أثنيه عن هذا العمل الذي يجرّ المتاعب، فقال لي: أريد فقط أن أسأله: بأي حقٍّ تعبّر لبشار الأسد عن حبنا له بصيغة الجمع؟ أخي أنا، مثلاً، لا أحبه. فإذا قال لي إنه طبع الصورة بأمرٍ من أحد المسؤولين، سأقول له، خل ذلك المسؤول يكتب اسمه تحت كلمة منحبك، أو يكتب (منحبك عدا تاج الدين الموسى)!

ولكن، عدا عن الناس المقموعين، المُجْبَرين على السكوت، كان هناك منافقون يبحثون عن فتات موائد ومناصب. وليس هؤلاء جميعاً من السوريين العرب. فعلى أثر وفاة حافظ الأسد في العاشر من يونيو/ حزيران 2000، أصبح المسؤولون الأمنيون والبعثيون والإداريون في المحافظات يتبارون في تنظيم زياراتٍ إلى القرداحة، كما لو أنها (حَجيج)، من أجل التوقف عند قبره وقراءة الفاتحة لروحه. ومثلما يجري "تَفَقُّد" مسيرات التأييد، وتسجيل أسماء المتخلفين عن الاشتراك بها، وإرسالها إلى فروع الأمن، أصبحت أسماء الجهات الحكومية التي لا تذهب إلى القرداحة تُسَجَّلُ، وكذلك الوفود التي تذهب لقضاء عمل في إحدى المدن الساحلية، ولا تعوّج على القرداحة لقراءة الفاتحة على روح القائد التاريخي.

وفي تلك الأيام، طلعتْ ببال أمين رابطة الشبيبة في عفرين (وهو كردي طبعاً) فكرة إرسال الرفاق الشبيبيين (الأكراد طبعاً) سيراً على الأقدام، بالملابس السوداء، حتى القرداحة... وقد نُفذت تلك المسيرة الفظيعة بالفعل، وكنا، نحن أبناء محافظة إدلب، نراهم، مثل أسراب النمال السوداء، قادمين من الشمال، وجوههم مغبّرة، محمرّة، وأقدامهم متورمة، وروائح أجسادهم المتعرقة تملأ الطريق، وكان أمناءُ الشُّعَب الحزبية يأمرون بفتح المدارس لهم، ليناموا الليل، ويتابعوا مسيرهم في الصباح.   

خلاصته: لا داعي أن نقول لكم إنكم انفصاليون، وإرهابيون، وتقولون لنا أنتم بعثيون، عفلقيون، وتربية حافظ الأسد، بل دعونا نقف جميعاً في وجه هذا الذلّ، ونقيم حكماً يحترمنا، ويعطينا حقوقنا، بدلاً من هذا الحكم الذي (يربّينا).

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...