تراجع الفصائل الفلسطينية وحضور الحراكات
أخيراً، وبعد طول تردّد، نظمت القوى الديمقراطية اليسارية الفلسطينية الخمس (الجبهتان الشعبية والديمقراطية، وحزبا الشعب وفدا، وحركة المبادرة) مظاهرة جماهيرية وسط رام الله في 25 أغسطس/ آب الجاري، شارك فيها مئات المواطنين من كوادر هذه القوى والمستقلين، للاحتجاج على حملات القمع الوحشي التي شنتها أجهزة أمن السلطة الفلسطينية، وتخللها اعتقال أكثر من 20 ناشطا بارزا، وللمطالبة بحماية الحريات العامة، بما فيها حرية التعبير والتجمع السلمي التي يكفلها القانون الأساسي الفلسطيني، فضلا عن تقاليد الحركة الوطنية العريقة القائمة على التعدّدية والاختلاف والتنوع.
مرّت المظاهرة بهدوء وسلام، فلم تتعرّض لأي من إجراءات القمع والتعسف من الأجهزة الأمنية التي أحاطت بالمتظاهرين، بل إن قائد شرطة محافظة رام الله وضباطه وقادة الأجهزة الأمنية الأخرى كانوا وسط المشاركين من دون أي احتكاك. ويمكن تفسير هذه النهاية السلمية، خلافا لما جرى في مظاهرات عديدة منذ قتل الناشط نزار بنات، بأن منظمي الفعالية حصلوا على ترخيص من الأجهزة الرسمية (إشعار مكتوب يُعبّأ وفق نموذج جاهز عن توقيت التجمع وغاياته وشعاراته وطبيعة المشاركين فيه). وكان لافتا أن الشعارات والهتافات التي جرى ترديدها قُرئت من أوراق موزّعة على الناشطين، وتجنّبت الشعارات والهتافات الإشكالية من نوع "ارحل"، وركّزت على المطالبة بالحريات العامة والدعوة إلى الوحدة الوطنية.
أظهرت الاحتجاجات أن السلطة ضعيفة وهشّة لا تحتمل أي معارضة، وأن أجهزتها الأمنية لا تراعي أي اعتبار
جاءت هذه الفعالية عقب سلسلة من عمليات القمع والتنكيل التي طاولت عشرات الناشطين والمحتجين على تصفية نزار بنات في يونيو/ حزيران الماضي، وشملت الاعتقالات ناشطين بارزين وفاعليات ثقافية وأكاديمية ووطنية، منهم الشاعر زكريا محمد، والبروفيسور عماد البرغوثي، والمعماري خلدون بشارة، والمخرج محمد العطار، والأسيران المحرران اللذان شارفا على الموت وتحولا إلى أيقونتين في أثناء إضرابهما عن الطعام، الشيخ خضر عدنان وماهر الأخرس، بالإضافة إلى الشخصيات القيادية والوطنية، تيسير الزبري (شقيق القائد الشهيد أبو علي مصطفى) وعمر عسّاف وأُبيّ العابودي ويوسف عمرو والناشط الشبابي فادي القرعان. وقد ولّدت هذه الاحتجاجات موجات متلاحقة من الرفض والاستنكار التي لم تتوقف عند حدود فلسطين، بل شارك فيها كتاب ومثقفون عرب كثر، وعضوا الكونغرس الأميركي من الجناح التقدمي في الحزب الديمقراطي، رشيدة طليب وإلهان عمر، وجهات دولية لها ممثلياتها المؤثرة في فلسطين، واحتلت مساحات واسعة في الصحافة العالمية، وذهبت ردود الفعل إلى أن أجهزة السلطة الفلسطينية تجاوزت كل الخطوط الحمر وفقدت صوابها، فلم تعد تحسب حسابا لشيء.
وجّهت حملات القمع رسائل خطيرة إلى المجتمع الفلسطيني والعالم، فهي أظهرت أن السلطة ضعيفة وهشّة لا تحتمل أي معارضة، وأن أجهزتها الأمنية لا تراعي أي اعتبار، وليس لديها خطوط حمر، ويمكنها أن تمضي إلى أبعد مدى يمكن تخيله في البطش بمعارضيها، وبالتالي فإن تصفية نزار بنات ليست مجرد خطأ تنفيذي. أما الرسالة الأخطر فمفادها بأن السلطة جاهزة للقيام بوظائفها الأمنية، وتحديدا في مجال التنسيق الأمني مع الاحتلال، من دون أية مراعاة للاعتبارات الوطنية والشعبية الداخلية.
اتهامات لمؤسسات السلطة الفلسطينية وقيادتها بالعمالة للاحتلال
وعلى الرغم من محدودية فعالية القوى الخمس وطابعها الرمزي، إلا أن عدة أطراف اتفقت على أهمية هذه الخطوة التي قد تضع حدا لمسلسل الانحدار الذي يعيشه النظام السياسي الفلسطيني، فهذه القوى التي عانت طويلا من خلافاتها وانقساماتها الحادّة أعادت تذكير المجتمع، وتذكير منتسبيها بأنها لا تزال حاضرة، وليست تابعةً للسلطة وملحقة بها، بل إنها تستطيع أن تقول "لا" للسلطة في الوقت المناسب، والحراكات الشعبية ومجموعات المتظاهرين الذين تحمّلوا القمع وحدهم على امتداد الأسابيع الماضية وجدوا في مشاركة القوى اليسارية نوعا من الغطاء والشرعية والحماية لتحرّكاتهم التي كانت تتهمهم السلطة بسببها بأنهم "أصحاب أجندات"، لا بل إن السلطة نفسها من المستفيدين من هذه الفعالية، إذ تظهرها قادرةً على استيعاب المعارضة، وليست نزقة أو هشّة وضعيفة لتحارب أي حراك مخالف، وكأنه يهدّد مصيرها ووجودها.
غياب القوى السياسية المنظمة (وليس اليسارية وحدها) عن الشارع طوال الفترة الماضية، ساهم في عزل الحراكات الشعبية، وتجريدها من أي حماية ممكنة، وترك هذه الحراكات عرضةً لقمع وتنكيل شديدين، وربما ساهم كذلك في إضفاء مزيد من الغُلوّ والتطرّف على الحراكات وشعاراتها التي تبدأ من مطالبة الرئيس محمود عباس بالرحيل، ولا تتوقف عند اتهام كل مؤسسات السلطة وقيادتها بالعمالة للاحتلال.
تكتفي القوى السياسية بإعلان اعتراضاتها اللفظية، لكنها تظل عاجزة عن تحويل هذا الرفض أو الاعتراض إلى موقف عملي ضاغط
ينطبق هذا الغياب بالطبع على حركة فتح وكوادرها، الذين ساءتهم وأذهلتهم رؤية حركتهم التاريخية المناضلة، والعمود الفقري للحركة الوطنية الفلسطينية، تنخرط في حملات قمع محمومة، وتُزجّ في مواجهة شعبها، عبّر عن هذا الموقف علنا مثقفون من الحركة وإعلاميون فيها، وعدد قليل جدا من قيادييها، لكن هذه المواقف والإعلانات ظلت حبيسة الغرف والصالونات، وبعيدة عن التأثير في القرار الرسمي للحركة التي تقود السلطة وأجهزتها.
كان يمكن لحضور وازن من قيادات القوى، وبينها أعضاء في أعلى الهيئات القيادية الفلسطينية، أن يُجنّب المجتمع الفلسطيني تلك المشاهد الفظيعة لقمع الناشطين والوطنيين والمثقفين من أبناء جلدتهم. وربما ساهم هذا الحضور، لو تحقق، في عقلنة المطالب والشعارات، وإثبات أن المطالبة بحماية الحريات العامة ومحاسبة المسؤولين عن جريمة قتل بنات، ورفض الاعتقال السياسي وتجريم التعذيب، هي مطالب تحظى بأوسع إجماع شعبي، وليست مجرّد شعارات لفئة محدودة ومعزولة.
لم يكن غياب القوى السياسية ناشئا عن خلل إداري، بل عن ضعفها وأزمة علاقاتها بالسلطة، فهي تكتفي بإعلان اعتراضاتها اللفظية تجاه هذا الموقف أو ذاك، لكنها تظل عاجزة عن تحويل هذا الرفض أو الاعتراض إلى موقف عملي ضاغط ومؤثر. وليس سرّا أن هذه القوى تتلقى دعما ماليا ثابتا من الموازنة العامة، كان ولا يزال خاضعا لتقديرات جزافية من قيادة السلطة، فهو قد ينتظم شهورا ثم ينقطع فجأة. بعض هذه القوى تشارك من موقع هامشي في حكومات السلطة، وجميعها من دون استثناء ارتضت نظام المحاصصة (الكوتا) في المؤسسات القيادية لمنظمة التحرير، وكذلك في النقابات والاتحادات الشعبية، فضلا عمّا يعتوِر بناها الداخلية وهياكلها من جمود وتكلّس وغياب للحياة الديمقراطية، ما ساهم في تراجع دورها وإخلاء ساحة الفعل الميداني للحراكات الشعبية التي تشكّلت في الأصل من أجل قضايا محدودة وعارضة، ولكنها تحوّلت، مع الوقت، إلى قوى وأدوات ضغط جدّية وفاعلة.