تذكّروا الخط 29

11 يونيو 2022
+ الخط -

"تذكّر، تذكّر الخامس من نوفمبر. الخيانة، البارود، المؤامرة". عبارة ترددت في فيلم "في فور فنديتا" (2004)، تنطبق بتفاصيلها على الخط 29 المتعلق بالحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة. الخيانة والبارود والمؤامرة تحضر أيضاً هنا. وكل كلام آخر مجرّد أقوال؛ لتنفيس غضب، أو السيطرة على مشاعر متفلّتة، ولا تمثل نية فعلية لرد اعتبار مفقود.

الخط 29 هو لبنان الرسمي الذي لم يقم يوماً بواجبه تجاه مواطنيه أولاً، ولا تجاه سيادته ثانياً. هل يتعلق الأمر بإهمال مفهوم المواطنية أو بنقص في الشعور بالوطنية؟ بالنسبة إلينا، نحن اللبنانيين، بوصفنا شعبا متحدرا من شعوب متناحرة، نعم قد يكون هذا السبب. لكن بالنسبة لركائز هذا النظام، من سابقين وحاليين ولاحقين، إذا دام مجدُه، فإن الأمر لا يتعدّى سياسة إعلاء سقف الشروط، لكسب أرباح محلية، تُودع في حسابات مصرفية خارجية، وتعيينات لمحسوبين عليهم في إدارات الدولة المنهكة.

هذا الخط لا يكشف عورةً ولا يميط اللثام عن فضيحة، بل يثبّت أمرا واقعا "طبيعيا" في الحالة السياسية اللبنانية، كان يمكن أن يمرّ الموضوع مرور الكرام، كيوم بلا عصافير تزقزق، لو لم تكن الأزمة الاقتصادية نيراً مثقلاً على رقاب اللبنانيين. السلوك الرسمي اللبناني في الخط 29 هو جوهر هيكلنا وحياتنا السياسية. لا أشخاص يصنعون بنيان الدولة موجودون، ولا فئات سياسية تتمسّك بحسّ إنساني، قبل أن يكون قوميا أو وطنيا، بل فقط باحثون عن كسبٍ سريع، بالمال وبالسياسة، على حساب شعبٍ يعيش حالة قريبة من الإبادة الجماعية.

هل كان يمكن التصرّف بطريقة مغايرة لمعالجة الأزمة البحرية؟ نعم، لا تنقطع الدنيا من الخيارات. كان يمكن البدء بحراسة حقوقنا منذ 10 و12 سنة. كان يمكن تهديد الوسطاء الأميركيين المتعاقبين، باستخدام كل الوسائل، المعترف بها دولياً، لحماية أرضنا وثرواتنا. كان يمكن مواصلة التفاوض غير المباشر مع الاحتلال من منطلق "الندّ للندّ". كان يمكن تسخير الجهود الدبلوماسية دولياً وعربياً لحماية حقوق لبنان. أما الآن، فكل ما نفعله لن يكون، وفق الأمم المتحدة، سوى "اعتداء على حدود دولة أخرى"، ولو أنه حقّ لنا، ولو أن الأمم المتحدة ليست سوى شبح لقوةٍ يفترض بها تطبيق القانون. الفلسطينيون يعلمون ذلك، قبل السوريين واليمنيين والعراقيين.

الأسوأ أن من أهمل حق لبنان لا يدرك هول ما فعل، بل يتصرّف ببراءة الأطفال، وكأن الأمر لا يستحقّ كل هذه الضجة. طبيعي أن من أوصل البلاد إلى الانهيار التام، في أسوأ أزمات العالم المالية تاريخياً، لن يتفهم ما يفكّر به اللبنانيون. أما الردود على طريقة التحذير أو "الردّ في الزمان المناسب"، فأصبحت دعابةً أكثر تقبّلاً للناس من مطلقيها.

"الخيانة" ليست سوى وجهة نظر، و"البارود" أداة للإمعان في تفجير الداخل، و"المؤامرة" هي الاسم الحركي لكل سياسي لبناني، مهما تشدّق بالوطنية. يكفي، على سبيل المثال، أن يتصفّح اللبنانيون أرشيفاً حديثاً، أقلّه في السنوات الخمس الأخيرة، ويقارنوا بين سلوك الدولة وأحزابها في ملفاتٍ داخليةٍ مثل تعيين شخص في أصغر فئات الإدارة اللبنانية قبل أكبرها، والمعارك الشرسة التي خيضت باسم الطائفة والمناطقية، وبين ردّ الفعل اللبناني الرسمي في كل ما يتعلق بالحدود. سيرى اللبنانيون أن مسؤوليهم قادرون على شحذ السيوف بضراوة والوقوف على حافّة حربٍ أهلية لأجل موظفٍ محسوبٍ عليهم، بينما بدوا كنعاجٍ تُساق إلى الذبح في ملفاتٍ يُفترض أن توحّد الشعوب اللبنانية حول وطن واحد لا أوطان متعدّدة.

الخط 29 يشبه هذا النظام المهترئ، القوي بهشاشته والضعيف حيال قوته، والمَصون بأفكار حرّاس الظلام الذين أقنعوا الناس بأن النور يشرق من كلماتهم. هناك أمرٌ واقع: خسرنا الخط 29، والباقي مجرّد ردود فعل لن تصنع اتحاداً وطنياً، بل تكرّس ملهاة الانقسام الداخلي، في وقتٍ يضخّ الإسرائيليون الغاز غرباً.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".