25 اغسطس 2024
تخدير الشعوب المناضلة
يتحدثُ الناس، في أدبيات السياسة، عن شيء اسمه "غسيل الدماغ"، ويتلخص في أن يستدرج تنظيمٌ سياسيٌّ، أو عقائدي ما، مجموعة من الشبان إلى ساحته، مستخدماً معهم شتى أنواع الترغيب المادي والمعنوي، ويضخ لهم أفكارَه المتطرفة بعد تزيينها، ثم يحذّرهم من الاطلاع على "بعض" الأفكار الأخرى، بذريعة أنها أفكار مُخَرِّبة. وفي مرحلة لاحقة، ومع اكتمال عملية الغسيل، يُحَرِّم عليهم الاطلاع على آراء الآخرين ومعتقداتهم "كلها"، تحريماً قطعياً، تحت طائلـة الجَلْد.
تحتاج هذه العملية، في الحقيقة، إلى "تخدير"، والتخدير لا يكون بالتَدَيُّن، ذلك أن الغالبية العظمى من الناس متديّنون، بمعنى أنهم ملتزمون بدينهم، يقيمون الصلوات، ويمارسون العبادات كاملة، وفي مواعيدها، لكنهم أناس معتدلون، قادرون على العيش والتعايش من دون أذى أو أحقاد.. وإنما يكون التخدير بتقديم طريقةٍ ما لفهم الدين تقوم على المغالاة، والتشدّد، والتمترس، ومعاداة الآخرين.
قد يظن بعضُ القراء الأكارم أنني سأقفز رأساً إلى ما رأيناه من سلوك "داعش" وأمثاله خلال السنوات الأخيرة. لا، فقد سمعنا، قبل انطلاق الثورة السورية، عن حالات كثيرة يجري فيها غسيل دماغ شبان، أو سيدات، تحت أسماء مختلفة، وبطرق مختلفة، فقد ظهر، في إحدى المدن السورية، ذاتَ سنة، رجلٌ صار له أتباعٌ، تنطبق عليهم اللعبة القديمة: "انزلوا بشوري، اطلعوا بقرن ثوري"، فإذا قرر الشيخ أن والدَ أحد مريديه كافر يصبح لزاماً على المريد أن يقاطع أباه، في الحد الأدنى. وإذا قرّر أن زوجة أحدهم كافرة، يجب على المريد أن يطلقها، في الحد الأدنى.. وكان يرافق مريديه إلى معارض الكتب، لا ليمنعهم من شراء كتب صادق العظم ونزار قباني وطيب تيزيني، فهذه غير واردة ضمن تفكيرهم أصلاً، ولا ليحول بينهم وبين شراء كتب لمؤلفين أجانب ومسيحيين وشيعة وعلويين، فهذه غير واردة أيضاً، وإنما ليمنعهم من شراء كتب لمؤلفين مسلمين سنة، ولكنهم معتدلون، متساهلون بأحكامهم! وياما شبان "انشقوا" عن أهاليهم، وتحولت حياة الأهل بسببهم إلى جحيم نتيجة لتوجيهات الشيخ. وهو، بدلاً من أن يبادر إلى إصلاح الشأن العائلي، يزيد من تكريس القطيعة.. وظهر، في مكان آخر، رجل ادّعى النبوة، وكان له أتباع ومريدون. ولعل تلك الغيوم هي التي أمطرتنا بالحادثة التي وقعت في السنوات الأخيرة، حينما قرّر تنظيم داعش قتل أحد الناس (من الدين والمذهب نفسيهما)، فتبرع ابنُه الداعشيُّ بقتله، باعتبار أن ثواب قتل الابن الأب الكافر، بحسب فتاواهم، مضاعف.
وقبل انطلاق الثورة ببضع سنوات، أيضاً، وقعت حادثةٌ بالغةُ الأهمية، هي أن مواطناً سورياً كان يعيش في أوروبا، وصدرت نتائج الثانوية العامة السورية، فهرع إلى الموقع الإلكتروني الخاص ببلدته، ليرى إن كانت ابنتُه قد نجحت أم لا، وقد حزن كثيراً لأنه لم يجد اسمها بين الناجحين. وبعد عدة محاولات، تمكّن من الاتصال هاتفياً بمنزله، فوجد الفرح بنجاحها يعم البيت، فازداد استغرابه، إلى أن أفهموه أن الموقع الإلكتروني لم ينشر أسماء البنات، لأن ذلك، بحسب ما أفتى لهم رجل الدين، عيب، وحرام.
يوم الإثنين 26 يوليو/ تموز 2017 نَفَّذَتْ هيئة تحرير الشام ما يسمى "حد الحرابة" بحق رجلين متهمين بالولاء لـ"داعش" عند دوار الزراعة، في مشهد علني مصوّر بالطريقة الداعشية نفسها. وفي اليوم نفسه، ظهر تسجيل مصور لزعيم تنظيم القاعدة، أيمن الظواهري، يعود إلى سنة 2015، لا يطلب فيه من المجاهدين الالتزام بالمواثيق الأخلاقية للحرب، بألا يعتدوا على يهودي أو نصراني أو بوذي، وإنما ينهاهم عن تفجير أنفسهم بإخوانهم المجاهدين، قائلاً: حتى ولو أمرك أميرُك بذلك، ولو أمرتك أنا بذلك، فلا تُطعني.
حينما يُدْخِلُون المريض إلى غرفة العمليات، فإن أول شيء يفعلونه أنهم يُخَدِّرُونه. نعم، نحن بحاجةٍ إلى تخدير قوي، لتستطيع أجسامُنا تَحَمُّلَ كل هذه التوجيهات والفتاوى والأوجاع.
تحتاج هذه العملية، في الحقيقة، إلى "تخدير"، والتخدير لا يكون بالتَدَيُّن، ذلك أن الغالبية العظمى من الناس متديّنون، بمعنى أنهم ملتزمون بدينهم، يقيمون الصلوات، ويمارسون العبادات كاملة، وفي مواعيدها، لكنهم أناس معتدلون، قادرون على العيش والتعايش من دون أذى أو أحقاد.. وإنما يكون التخدير بتقديم طريقةٍ ما لفهم الدين تقوم على المغالاة، والتشدّد، والتمترس، ومعاداة الآخرين.
قد يظن بعضُ القراء الأكارم أنني سأقفز رأساً إلى ما رأيناه من سلوك "داعش" وأمثاله خلال السنوات الأخيرة. لا، فقد سمعنا، قبل انطلاق الثورة السورية، عن حالات كثيرة يجري فيها غسيل دماغ شبان، أو سيدات، تحت أسماء مختلفة، وبطرق مختلفة، فقد ظهر، في إحدى المدن السورية، ذاتَ سنة، رجلٌ صار له أتباعٌ، تنطبق عليهم اللعبة القديمة: "انزلوا بشوري، اطلعوا بقرن ثوري"، فإذا قرر الشيخ أن والدَ أحد مريديه كافر يصبح لزاماً على المريد أن يقاطع أباه، في الحد الأدنى. وإذا قرّر أن زوجة أحدهم كافرة، يجب على المريد أن يطلقها، في الحد الأدنى.. وكان يرافق مريديه إلى معارض الكتب، لا ليمنعهم من شراء كتب صادق العظم ونزار قباني وطيب تيزيني، فهذه غير واردة ضمن تفكيرهم أصلاً، ولا ليحول بينهم وبين شراء كتب لمؤلفين أجانب ومسيحيين وشيعة وعلويين، فهذه غير واردة أيضاً، وإنما ليمنعهم من شراء كتب لمؤلفين مسلمين سنة، ولكنهم معتدلون، متساهلون بأحكامهم! وياما شبان "انشقوا" عن أهاليهم، وتحولت حياة الأهل بسببهم إلى جحيم نتيجة لتوجيهات الشيخ. وهو، بدلاً من أن يبادر إلى إصلاح الشأن العائلي، يزيد من تكريس القطيعة.. وظهر، في مكان آخر، رجل ادّعى النبوة، وكان له أتباع ومريدون. ولعل تلك الغيوم هي التي أمطرتنا بالحادثة التي وقعت في السنوات الأخيرة، حينما قرّر تنظيم داعش قتل أحد الناس (من الدين والمذهب نفسيهما)، فتبرع ابنُه الداعشيُّ بقتله، باعتبار أن ثواب قتل الابن الأب الكافر، بحسب فتاواهم، مضاعف.
وقبل انطلاق الثورة ببضع سنوات، أيضاً، وقعت حادثةٌ بالغةُ الأهمية، هي أن مواطناً سورياً كان يعيش في أوروبا، وصدرت نتائج الثانوية العامة السورية، فهرع إلى الموقع الإلكتروني الخاص ببلدته، ليرى إن كانت ابنتُه قد نجحت أم لا، وقد حزن كثيراً لأنه لم يجد اسمها بين الناجحين. وبعد عدة محاولات، تمكّن من الاتصال هاتفياً بمنزله، فوجد الفرح بنجاحها يعم البيت، فازداد استغرابه، إلى أن أفهموه أن الموقع الإلكتروني لم ينشر أسماء البنات، لأن ذلك، بحسب ما أفتى لهم رجل الدين، عيب، وحرام.
يوم الإثنين 26 يوليو/ تموز 2017 نَفَّذَتْ هيئة تحرير الشام ما يسمى "حد الحرابة" بحق رجلين متهمين بالولاء لـ"داعش" عند دوار الزراعة، في مشهد علني مصوّر بالطريقة الداعشية نفسها. وفي اليوم نفسه، ظهر تسجيل مصور لزعيم تنظيم القاعدة، أيمن الظواهري، يعود إلى سنة 2015، لا يطلب فيه من المجاهدين الالتزام بالمواثيق الأخلاقية للحرب، بألا يعتدوا على يهودي أو نصراني أو بوذي، وإنما ينهاهم عن تفجير أنفسهم بإخوانهم المجاهدين، قائلاً: حتى ولو أمرك أميرُك بذلك، ولو أمرتك أنا بذلك، فلا تُطعني.
حينما يُدْخِلُون المريض إلى غرفة العمليات، فإن أول شيء يفعلونه أنهم يُخَدِّرُونه. نعم، نحن بحاجةٍ إلى تخدير قوي، لتستطيع أجسامُنا تَحَمُّلَ كل هذه التوجيهات والفتاوى والأوجاع.