تحدّيات الاتفاق السعودي الإيراني ومنافعه الصينية
باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.
على الرغم من تشكيك الموقفين الأميركي والإسرائيلي في إمكانية نجاح الاتفاق الصيني السعودي الإيراني (10/3/2023)، فإن الاتفاق يشكّل "تحريكًا" للمياه الراكدة في إقليم الشرق الأوسط، وربما يعزّز خطوات "التهدئة الإقليمية"، بعد عقود من العمل الأميركي/ الغربي المتواصل، لتقسيم الإقليم إلى محاور متصارعة، وتأجيج الصراعات بينها، وتكثيف عملية "عسكرة" العلاقات الإقليمية، وتشجيع سباق التسلح في المنطقة.
وفي سياق تحليل رعاية الصين هذا الاتفاق وتداعياته المحتملة على إقليم الشرق الأوسط وسياسات الفاعلين الدوليين والإقليميين، ثمّة أربع ملاحظات؛ أولاها تقدّم "دبلوماسية التوازنات" الصينية وتعاظم نفوذها الاقتصادي في الإقليم ونشاطها في ازيارات لدول المنطقة، في مقابل تراجع السياسات الأميركية وتراكم أخطائها وانحيازها الصارخ لإسرائيل، وبروز فكرة "الانكفاء الأميركي النسبي" عن الشرق الأوسط، منذ بداية إدارة باراك أوباما، (سلّم "المسألة السورية" برمتها إلى روسيا، وأحجم عن التدخل الفاعل فيها)، مرورًا بحقبة دونالد ترامب (لم يتصدّ للهجمات على منشآت أرامكو السعودية في 2019)، وانتهاءً بسياسات الرئيس جو بايدن (نفّذ انسحابًا "مرتبكًا" من أفغانستان صيف 2021، قبل أن يركّز على التعامل مع صعود دوريْ الصين وروسيا).
وقد منح دخول الصين وسيطًا بين الرياض وطهران اتفاقهما "زخمًا دوليًّا"، وحضورًا لافتًا في الإعلام الغربي، خصوصًا أنه جاء بعد إعلان الصين مبادرتها لتسوية الأزمة الأوكرانية أواخر فبراير/ شباط الماضي، ما يعني أن بكين نجحت في تقديم نفسها "طرفًا دوليًّا مسؤولًا"، ولا يزال في وسعها استثمار "سمعتها" وعلاقاتها الاقتصادية المتشعبة مع جميع الأطراف الإقليمية والدولية، كي تزيد فعالية دبلوماسيتها وجهودها في الوساطات في عدة قضايا، وربما صولًا إلى أن تصبح "عاصمة الحلول الدبلوماسية" لأزمات الخليج والشرق الأوسط، على نحو قد يسرّع إسدال الستار على "الحقبة الأميركية" في المنطقة، التي كان البيت الأبيض فيها مقر أغلب الاحتفالات باتفاقيات التسوية/ التطبيع العربية الإسرائيلية (كامب ديفيد 1978، أوسلو 1993، وادي عربة 1994، التطبيع الإماراتي والبحريني مع إسرائيل أو "اتفاقات أبراهام" 2020 ... إلخ).
لا تبدو الرعاية الصينية للاتفاق "مفاجئة"، بل جرى إنضاجها على "نار هادئة"
واستطرادًا، لا تبدو الرعاية الصينية للاتفاق "مفاجئة"، بل جرى إنضاجها على "نار هادئة"؛ فقد جاءت في سياق تقارب صيني روسي، وحراك صيني مضادّ لمحاولات واشنطن تطويق دور بكين ونفوذها المتصاعد دوليًّا وإقليميًّا بعد الأزمة الأوكرانية؛ إذ استثمرت الصين ثلاثة متغيرات أكّدت "حضورها الفاعل"؛ أولها زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ، إلى السعودية (7-9/12/2022). ثانيها زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي الصين (14- 16/2/2023). وثالثها توظيف حاجة الطرفين السعودي والإيراني إلى "التهدئة"، في ظل انصراف واشنطن عن إقليم الشرق الأوسط إلى أولويات التصدّي للسياسات الروسية والصينية في غير مكان، وانشغال موسكو بحربها الأوكرانية. وتتعلق الملاحظة الثانية بالدوافع السعودية لهذا الاتفاق؛ إذ تبرُز الحاجة إلى تنويع علاقاتها الخارجية، مع الأطراف الدولية والإقليمية ذات النفوذ المتصاعد في إقليم الشرق الأوسط، (خصوصًا التقارب مع الصين وروسيا وتركيا وإيران).
على صعيد آخر، تواصل الرياض توجيه رسائل "متوازنة" إلى واشنطن، من دون الإضرار بأسس العلاقات الأميركية السعودية، مثل قرار تحالف "أوبك+" (5/10/2022)، خفض إنتاج النفط، مليونَي برميل يوميًّا. فضلًا عن سعي الرياض إلى تأكيد فاعلية/ حركية دبلوماسيتها، كما تجلّى في زيارة وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، إلى أوكرانيا، والتوقيع على اتفاقية ومذكرة تفاهم بين البلدين، بقيمة تصل إلى 400 مليون دولار. وإتمام السعودية، أخيرا، صفقتين مع شركة بوينغ الأميركية لشراء 121 طائرة ركاب من طراز "بوينغ 787 دريملاينر" بقيمة 37 مليار دولار، وهي خطوةٌ أشاد بها البيت الأبيض.
إضافة إلى ذلك، يبدو اتجاه السعودية إلى سياسة التهدئة الإقليمية (مع إيران وتركيا وباكستان) بعد قمة العُلا للمصالحة الخليجية (5/1/2021)، وزيادة تأثير البعد الاقتصادي في السياسة الخارجية السعودية؛ إذ ترتكز "دبلوماسية نيوم" على توجهات سياسية/ اقتصادية/ سياحية/ ترفيهية، قائمة على مشروع ولي العهد، محمد بن سلمان، "رؤية 2030"؛ إذ تلعب مدينة "نيوم" دورها أداةً للقوة الناعمة، بما يعيد رسم الصورة الخارجية والاستثمارية للسعودية، فضلًا عن استقطاب المستثمرين والشركاء الدبلوماسيين والاقتصاديين، سواء أميركا وإسرائيل ودول أوروبية، أم روسيا، أم الصين وتركيا وباكستان.
بروز الدور الصيني على نحو يؤكّد وجود استراتيجية صينية تجاه الإقليم، وتحوّله "ميدانًا إضافيًّا" للتنافس الأميركي الصيني
كما تأمل الرياض عبر الاتفاق مع إيران في تحقيق ثلاثة أهداف: أولها إبعاد الخليج عن تداعيات أية ضربة عسكرية محتملة للمنشآت النووية الإيرانية، خصوصًا في ضوء احتمال لجوء رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إلى تصعيد الصراع ضد طهران وحلفائها، بغية الهروب من الأزمة الداخلية الإسرائيلية المتفاقمة على خلفية مشروع "إصلاح القضاء". وثانيها رغبة السعودية في الخروج من "المستنقع اليمني"، وتصاعد شكوكها بدرجة التزام الولايات المتحدة بأمنها؛ إذ تسعى الرياض إلى توفير فرصة لحلحلة الصراع في اليمن وإعادة تعريفه، ليكون صراعًا بين أطرافٍ يمنيةٍ داخلية، مع "إعادة ترتيب أوزان القوى الخارجية"، المتدخّلة في الشأن اليمني، خصوصًا إيران والإمارات، في ظل انكفاء أغلب اللاعبين الإقليميين، على شؤونهم الداخلية، بهدف مواجهة تداعيات الأزمة الأوكرانية، وأهمية وقف تمويل الصراعات الإقليمية وتوجيه الفوائض المالية لمعالجة مشكلات الداخل وحاجاته. وثالثها استعادة العلاقات السعودية مع نظام بشار الأسد، الذي يجري بوساطة روسية، تعزيزًا لنفوذ موسكو في المنطقة، بعد الوساطة الصينية بين الرياض وطهران، كما أوردت صحيفة وول ستريت جورنال في 23/3/2023. ويبدو أن ثمة رأيًا سعوديا يرى "المدخل الاقتصادي" مفتاحًا لحل بعض عقد الصراع/ التنافس مع طهران، سيما في بناء "الثقة المتبادلة"؛ إذ صرح وزير المالية السعودي، محمد الجدعان، بأن استثمارات بلاده في إيران يمكن أن تحدُث سريعًا جدًا بعد اتفاق استئناف العلاقات بين البلدين.
تتعلق الملاحظة الثالثة بدوافع إيران لتوقيع الاتفاق؛ إذ تخشى تداعيات تصاعد التنسيق العسكري الأميركي – الإسرائيلي ضد برنامجها النووي، سيما بعد تضاؤل فرص العودة إلى الاتفاق النووي، وإعلان الوكالة الدولية للطاقة الذرية أنها وجدت مادة اليورانيوم المخصّب في منشأة فوردو النووية بنسب تقترب من النسبة اللازمة لصناعة سلاح نووي، ناهيك عن إضافة ملف تزويد إيران موسكو بمُسيّرات "شاهد 136" إلى ملفات الأزمات العالقة بين طهران من جهة، وواشنطن والعواصم الغربية من جهة أخرى.
وعلى الرغم من تراجع وتيرة الاحتجاجات التي أعقبت مقتل الشابة الكردية مهسا أميني، (في سبتمبر/ أيلول الماضي)، فلا شك أنها تشير إلى أزمة داخلية تتزامن مع تفاقم أثر العقوبات الاقتصادية الأميركية والغربية على الاقتصاد الإيراني، الذي خسر وفق تقديرات إيرانية 150 مليار دولار بسبب هذه العقوبات، ناهيك عن تأثيرها على اقتصاد الحرس الثوري، الذي صنّفه الرئيس الأميركي ترامب عام 2019، "منظمة إرهابية". وثمّة من يرى مؤشّرات "تهدئة" في الخطاب الإيراني تجاه السعودية بعد الاتفاق، و"التفاتة" إيرانية إلى محورية البعد الاقتصادي وضرورة كبح التضخّم وغلاء المعيشة في المرحلة المقبلة، على الرغم من استمرار توجيه اللوم إلى الغرب في الاحتجاجات، ورفض تغيير الدستور، والإشادة بتقدّم علاقات إيران مع دول آسيوية، ونفي أي تدخل في حرب أوكرانيا، كما جاء في خطاب المرشد الأعلى، علي خامنئي، (بثّه التلفزيون الإيراني 21/3/2023).
قد يشكّل الاتفاق خصمًا من دور إسرائيل الإقليمي وقدرتها على توظيف التطبيع العربي والخليجي أمنيًّا واستخباريًّا وعسكريًّا ضد إيران
تتعلق الملاحظة الرابعة بالرابحين والخاسرين من الاتفاق السعودي الإيراني؛ إذ يبدو في صالح دول المنطقة، خصوصًا العراق وعُمان وقطر وتركيا، بينما قد يشكّل خصمًا من دور إسرائيل الإقليمي وقدرتها على توظيف التطبيع العربي والخليجي أمنيًّا واستخباريًّا وعسكريًّا ضد إيران، في حين تبدو مصر منشغلة بمشكلاتها الاقتصادية الداخلية وتفاقم خلافاتها مع الملء الرابع لسد النهضة الإثيوبي، وتردّد القاهرة في الانفتاح على إيران، ما يؤكد وجود قيد إسرائيلي/ أميركي بهذا الصدد، وليس "قيدا سعوديًّا" أو "فيتو خليجيا"، كما يرى بعضهم.
يبقى القول إن الاتفاق الصيني السعودي الإيراني يمثل متغيرًا مهمًّا، في تداعياته على إقليم الشرق الأوسط، سيما في بروز الدور الصيني على نحو يؤكّد وجود استراتيجية صينية تجاه الإقليم، وتحوّله "ميدانًا إضافيًّا" للتنافس الأميركي الصيني، مع بقاء مناطق آسيا وتايوان وبحر الصين الجنوبي والمحيط الهادئ، مسرحًا أساسًا للتنافس الجيوبوليتيكي بين البلدين.
وعلى الرغم من صعوبة توقع انتهاء الصراع الإقليمي والتنافس الجيوبوليتيكي بين الرياض وطهران، من المهم التريث قبل الحكم على مآلات الاتفاق وانعكاساته على القضايا العربية (اليمن وسورية والعراق ولبنان)، في ظل التحدّيات المعقّدة التي يواجهها الاتفاق، في المدى المنظور، من قبيل مدى التزام طهران بالاتفاق، واستعدادها للضغط على المليشيات الحليفة لها، مع احتمال تحرّك الأطراف الخاسرة نحو سياسة منع "الحد الأدنى" من التقارب والتنسيق الإقليمي، الذي يعاكس بداهةً المصالح الإسرائيلية، وبعض الأطراف الأميركية/ الغربية، الحريصة على استمرار سياسة "إفشال" إقليم الشرق الأوسط وتوظيف صراعاته في خدمة مصالحها.
باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.