بين نقدٍ مفيدٍ وآخر لا يترُك أثراً

19 يونيو 2023

(محمد شبعة)

+ الخط -

ينتشر ما يتركه القرّاء العابرون في صفحات النت والمواقع الإلكترونية من انطباعات وإلماعات سريعة عن أعمال اطلعوا عليها، روايات أو مجموعات قصصية أو دواوين شعر أو كتب مترجمة، وكثيرا ما تكون هذه الانطباعات عاطفيّة وحارّة، ورغم ذلك هي مهمة، أهمتها في أنها تؤدّي دورا في تفعيل وبث حيوية في المشهد العام، لكنها في المقابل لا تترك أثرا وراءها، كما أنها لا توثّق عادة في "غوغل"، لذلك تكون سيّالة وعابرة.
المستوى الثاني من القراءات أهمّ من المستوى السابق، أعني القراءات الصحافية التي تُنجَز على هيئة مقالاتٍ سيّارة، بما تمتاز به من تكثيفٍ وتركيزٍ على مناطق القوّة عادة في الكتاب المطروق، يقوم بها صحافيون وكتاب أعمدة محترفون. هذه القراءة مركّزة لعمل إبداعي أو كتاب أعجبوا به، وحرّك في دواخلهم ما يستدعي الإشادة به وتعريف قرّاء الصحف اليومية أو متصفّحي صفحات التواصل الاجتماعي به، كما يدلل على أن كاتب المقال متابعٌ وراصدٌ كل جديد ومتجدّد. ويكون هذا المستوى أهم بمسافة من المستوى الأول ذي الطبيعة العاطفية العابرة.
ولكن المستوى الأهم في سياق القراءات جميعها، وهو شبه غائب تقريبا أو نادر؛ النقد الأكاديمي، وهو المستوى الذي يمكنه أن يقدّم إضافاتٍ وتتبعا سياقيا للمنجز الإبداعي، وربطه بسياقات أكبر. ويكون هذا النقد عادةً معبّأ بمقولاتٍ نظرية، وذلك لأن النقد لا يمكنه أن يسمو وينمو وينهض ويكتمل خارج التكوين النظري الأكاديمي كقاعدة تأسيسية؛ وبعد ذلك، يمكن الحديث عن تميّز وتفرّد بين ناقد وآخر. ويتشكّل هذا النوع من النقد، عادة، داخل أسوار الجامعة، باعتبار النقد علما بالأساس، والذائقة إحدى روافده، ضمن روافد عديدة. لذلك، الاتجاه الذي نراه الآن، وهو التخفيف، بل ومجابهة العلوم الإنسانية في جامعاتنا، خطأ جسيم في نظري، لأن هذه العلوم الإنسانية، من اجتماع وفلسفة، وبينها النقد المناط به تتبع (وتفسير) الكم الإبداعي المتنامي في بلادنا العربية، والذي سيظلّ يجري خارج المتابعة الرصينة، إذا جرى إهمال الدرس النقدي بوصفه علما.
وما سيقوم به النقد الأكاديمي هو الأكثر رصانةً ودراسة وتأنيا، وبالتالي الأكثر بقاء. لذلك من الضرورة تكوين كوادر أكاديمية في المجال النقدي، وهذا ما يجب أن تقوم به كليات الآداب في الجامعات، أن تسعى إلى تكوين نقاد، وهو أمرٌ سيكون له ما بعده في سياق تأصيل الحركة النقدية في العالم العربي. ويربط النقد الأكاديمي محصّلاته برباط فكري، يمكن، من خلاله، فهم جوانب من حركة التاريخ وطبيعة تقلباته. 
قرأت مرّة مقالة نقدية رصينة وموسّعة حول رواية سيرفانتيس "دون كيخوت"، خرج فيها الناقد برؤيةٍ أبهرتني، حين ذهب إلى أن أكثر ما تعبّر عنه الرواية هذه الروح النبيلة التي تحارب الطواحين بالسيوف والرماح، والتي يمثّلها دون كيخوت، في مجابهة الروح "الكلبية" للعصر والتي تتشكّل على مبدأ من المحسوبية والفساد. وقد تتبع الكاتب فرضيته هذه وثبتها بأدلةٍ من الرواية نفسها، ما لم يكن ينتبه إليه كاتب الرواية وهو يكتب، ولا حتى قارئ الرواية.
وأخيرا، قرأت كتابا نقديا جميلا عنوانه "دوستويفسكي إعادة قراءة" للناقد والأكاديمي ي. كاريكاين، الذي يرى أنه لا يمكن الحديث عن دوستويفسكي من دون استدعاء الدوستويفسكية، التي أسّسها من دون وعي منه. ويتبحّر الناقد في إيلاء هذه الفرضية مكانتها من الصحة؛ حتى إنه حين تحدّث عن "الجريمة والعقاب"، الرواية الأشهر لدوستويفسكي، والتي كتبها تحت ضغط الحاجة الشديدة للمال، حين كان يبعث بفصل من الفصول إلى المطبعة والفصل الموالي لمّا يكتمل بعدُ حتى في رأسه. ويرى الناقد أنه رغم هذا العصف والفوضى والضغط الشديد التي كتب فيها دوستويفسكي عمله، جاءت الرواية في إيقاع مضبوط ومنظّم، وكأنها كتبت على نار هادئة. وقد دلل على ذلك بأمثلة كثيرة، من أهمها النهاية الرومانسية السعيدة للبطل راسكولينيكوف.
يستطيع الناقد المؤسّس علميا أن يكتشف ليس فقط ما لم يكتشفه الكاتب، وإنما حتى القارئ المختص، وهذا الدور الحضاري الذي يقوم به النقد في الأساس بربطه العمل الأدبي برؤية إنسانية أكبر تحمل الكثير؛ واكتشاف أهم مكامن الإبداع لدى الكاتب، هو ما نحتاج إليه لفهم فوضى التحوّلات الوجودية المتسارعة في زمننا.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي