بين "ملك" سورية المتوحشة و"مملوكه" الوفي
أياً تكن المآلات التي وصل إليها الحدثُ السوري الراهن، وحتى لا ينصرف التصوّر إلى خارج حدود موضوعية الاستعصاء الوطني المزمن الذي لم يتأتَّ من فراغ، علينا أن نضع نصب أعيننا رحلة الإنكار السوري الطويل لسورية منذ بداية عهد الاستقلال، من زعمائها ورجالاتها الوطنيين، الذين تعاملوا معها كما لو أنها بلا تاريخ أو جذور، ولا بدّ من إلحاقها بأمم أخرى أكثر أصالة، العراق ومصر مثالاً، ليكتمل المشهد العبثي بوصول حافظ الأسد إلى السلطة، والذي سيوغل أكثر في الإنكار بعد اختصارها المهين بـاسم "سورية الأسد". كان هذا، لا شك، إيعازاً بالسير بالبلاد نسقياً باتجاه البدائية السياسية مع هندسة متأنّية لمملكة الرعب، واصطناع ما يمكن تسميتها "القِبلة الأمنية"، حيث الحاكم ربّ البلاد، والكلّ يدور حوله ممجّداً ومسبّحاً. مستنداً إلى القوة العارية، بدأ طاغية دمشق بابتكار خلطة مجتمع قبل سياسي داخل مطابخ الشر المطلق للأجهزة الأمنية والاستخباراتية، ونظراً إلى توفر المعطيات بإحاطات مفصّلة يتضح السعي الحثيث وراء هيمنة عدمية عبر تكديس شعبٍ من المساطيل داخل جمهورية "الأبد الأسدي".
على التوازي، سيبلغ الإنكار منتهاه بعد الثورة السورية، التي ستستبيح ما تشاء بدعوةٍ من "رئيس" منفصم لم يرَ في سورية يوماً وطناً، بل مزرعة موروثة، ذهب الجميع فيها إلى طوائفهم وإثنياتهم ومصالحهم. واليوم، ليس ثمّة ما يشي بتغيراتٍ مهمّة في إدارة رحلة الإنكار السوري، الأطراف جميعها ما زالت رهينة تقديراتها الخاصة لمصالحها ورؤيتها البعد الاستثماري إلى حين امتلاء سلال اللاعبين الكبار بالثمار المرجوّة، ما يعيدنا إلى بادئ ذي بدء لفهم معضلة بلادٍ "لقيطة" باتت خليطاً هجيناً بين الأطماع المتوحشة والاستبداد الشرقي، بتوجيهاتٍ استخباراتية وغاياتٍ تآمرية، لتستحيل إلى مسلخٍ بشري بعدما كانت سجناً مظلماً كبيراً.
وبالتساوق مع السردية السائدة إنّ نظام الأسد نشأ نشأة مشبوهة في ظلّ تاريخٍ حافل بالمجازر، ثمة حقيقة عصية على السطحية والارتجال، أنه لم يعد يملك ما يسعفه في الخروج من إجرامه سوى التمادي في الجريمة. في المقابل، ثمة ديناميات موازية لإعادة توطيد سلطته، عبر التلاعب بشبكات النخب الأمنية والاستخباراتية، والتحصّل على شرعية وأدوات، تتيحها مساحات المناورة المتشكلة خارجياً وداخلياً، مع ما يعتري هذه العملية من تحدّيات جمّة، ما يشي بتصوّر وجود اضطرابٍ مكتسب له أساس بنيويّ في دينامية الاستبداد الأسدي القائم على تراكم اعتلالاتٍ مصلحية فراديّة وإفلاساتٍ سياسية. يأخذنا هذا بالضرورة باتجاه كتاب "سورية: الدولة المتوحشة" للفرنسي ميشيل سورا، الذي فكّك البنية السلطويّة التي أنشأها الأسد الأب عبر استثمار الآلة العسكرية واستخدامها وَفقَ نموذجِ "العصابة"، فاضحاً ميكانيزمات سلطته العميقة، وجوهرها التغييب الممنهج للمركز في منظومة العلاقات الأمنية، فالثقل المؤثر موجود دائماً بين هوامش الأطراف. وربما التغييرات التي طرأت أخيرا على أعلى المستويات الأمنية، خير دليل على ذلك، وكان أهمّها عزل اللواء علي مملوك، وإبعاده عن رئاسة الأمن الوطني، وتعيينه مستشاراً أمنياً. تغييرات فتحت بابَ التساؤل عن نهاية عهد الرجل الذي ينتمي إلى نظام النفعيات وبولاء إيديولوجي صارم، باعتباره أحد قادة المخابرات الجوية والأب الروحي لجهاز أمن الدولة سنوات طويلة ورئيسا لهيكلة جميع الأجهزة الأمنية مع اشتعال شرارة الثورة السورية.
ليس الجواب عن سؤال اقتلاع علي مملوك بالهيّن ولا بالمنحسم، ويتطلّب الأمر استيعاب استراتيجية نظام الأسد في إعادة "تزييت" مفاصل الحركة لما يُسمّى "ماكينة التوحش الأعمى"
وليس الجواب عن سؤال اقتلاع علي مملوك بالهيّن ولا بالمنحسم، ويتطلّب الأمر استيعاب استراتيجية نظام الأسد في إعادة "تزييت" مفاصل الحركة لما يُسمّى "ماكينة التوحش الأعمى"، من منطلق أنها الحاضن والمنتج والمشكّل لنمط الصراع السوري، ما منَحَ الأسد الابن "الحصانة السيادية" حتى اللحظة على الأقل، فهو لا يسمح لأيّ قائدٍ مؤثر بالبقاء طويلاً في منصبٍ حرج، بالتالي، لا يأتي استغناء "ملك" سورية المفيدة عن "مملوكه"، وهو آخر المتبقّين من رعيل الأسد الأب، وفي هذا التوقيت بالذات، في إطار التحديث السلطوي الذي راح يتبجّح به أخيرا، خصوصاً بعد استبداله باللواء كفاح ملحم الذي لا يتمتع بخبرة أمنية متقدّمة، وله تاريخ وحشي مليء بالانتهاكات والتجاوزات، ما يعني أنّ شيئاً لم يتغيّر في التقسيمة الطائفية لقيادة الأجهزة الأمنية. وليس مما يُقرَأ بتأنٍّ ليُنسى، وهو التسليم بأنّ مملوك، الذي لعب دوراً محورياً في اتخاذ القرار داخل النظام، وفي أحلك سنواته خلال العقديّة الفائتة، لن يكون أوفر حظّاً من كثيرين من رجالات الأسد الأوفياء، الذين "أُقصوا" على الناعم ضمن سياسة غربلة الولاءات. ولعل أهمهم، علي دوبا، الذي كان يُوصف بالرجل الثاني في البلاد بعد حافظ الأسد، والذي ساهم في تأسيس منظومة الرعب الأسدية، هو الذي مات قعيداً على كرسي متحرك، ليمثل نهاية درامية مجانية لاسمٍ كان كفيلاً بنشر الفزع في أوساط السوريين، حين ذكره، قبل ربع قرنٍ فقط.
أمّا أغلب الكلام الممجوج الذي يحاول إضفاء مسحة غيبيّة على شرعيّة الأسد فيؤكد أنّ "إعادة ترتيب أضلاع الهيكل الأمني" تثبت مرّة أخرى أنّ أصالة الممارسة السياسية لنظام الأسد تأتي من الحلول العدمية القائمة على منطق الكلّ أو اللاشيء، والتي لا تتنافى مع متضمّنات مصطلحات الإبادة الشهيرة من قبيل "الأسد أو لا أحد" و"الأسد أو تُحرق البلد" الملتهبة، رغم ساحة النزاع السوري المجمّدة حالياً، والتي تتسيدها تسوياتٍ مؤقتة، ومسارات سياسية معلقة، أيضاً مبادرات فقدت بوصلتها، فضلاً عن مشهدٍ أمني ركيك وخواصر رخوة، يزيدها هشاشةً التلاعب بالنخب العسكرية والأمنية، على اعتبارها رهائن العرش الأسدي، لاسيّما المرشحين منها ليشكّلوا مراكز قوة بما لديهم من امتدادات محلية أو روابط مصلحية مع الحلفاء.
تتضارب الأنباء عن خلفيات نقل اللواء مملوك، إنْ كان قرار إطاحة أو عزل أو حتّى ترقية، أو كان بإيعازٍ من الحليف الروسي
ولنفهم الأمر على وجه الدقة تجدر الإشارة إلى أنه في عام 2015، انتشرت شائعة عن محاولة علي مملوك الانقلاب على الأسد، وذلك بعدما نشرت صحيفة التلغراف البريطانية تقريراً عن إجراء الرجل محادثات سرية مع المخابرات التركية ودول أخرى تدعم المعارضة السورية، ما دفع الأسد إلى وضعه تحت الإقامة الجبرية. وبغض النظر عن صحة التقرير من عدمها أُشيعت معلوماتٌ أخرى أكثر خطورة، قيل إنها مسرّبة، عن لقاء سرّي عُقد بموسكو للبحث في مستقبل سورية، وكانت أبرز نتائجه أنّ الروس باتوا يرجّحون تسليم اللواء مملوك، وهو المعارض للنفوذ الإيراني المتزايد، رئاسة سورية بدلاً من بشار الأسد.
نافل القول... تتضارب الأنباء عن خلفيات نقل اللواء مملوك، إنْ كان قرار إطاحة أو عزل أو حتّى ترقية، أو كان بإيعازٍ مباشر من الحليف الروسي بعد تسريباتٍ صحافية فضحت خطته المبيّتة لإعادة هيكلة أجهزة الأمن والاستخبارات التي يديرها النظام. ومهما يكن من حقيقة الأمر، فالواضح أنّ المناقلات الأمنية الأخيرة التي يجريها الأسد ليست سوى تخبّطات عبثية لن تحقق أهدافا ملموسة وعوائد حقيقية، هو المعتمد على حلول بدائية تمزج بين الإكراه والإقصاء الناعم بهدف التشفّي والإمعان في الإذلال والإخضاع، مع العلم أنّ مساعي الأسد لن تُبصر النور في المدى المنظور لما يواجه من تحدّياتٍ جسام، بينما تطارده أسماء ضحاياه حتى حفرة الجحيم السرمديّة، وتدفعه إلى ارتكاب مزيد من التخبّط السياسي والمذابح اليائسة لطمأنة ذاته المجرمة، التي ستشهد، لا بدّ، نهاية مزرية لحاكم ثقيل وحكم أثقل.