بين طاولة الحوار ومضمار الموت

28 مايو 2023
+ الخط -

في لعبة كرة القدم، مثالاً وليس موضوعاً حصرياً، يرتكب لاعبٌ من الفريق الأول مخالفة عنيفة بعض الشيء ضد لاعب من الفريق الآخر، فيتفاعل معه اللاعب من الفريق الخصم بعنف، ويردّ له أحياناً الصاع صاعين. يُسارع الحكم إلى معاقبة الطرف الأول إن شاهد فعلته، أو يعاقب الطرفين إن قدّر أنهما مسؤولان، أو أنه يغفل عمن ارتكب الفعل الأول مخالفاً، ليعاقب الطرف الذي صدر عنه ردّ الفعل، معتبراً بذلك أنه الحاكم العادل، وليس على الضحية أن تأخذ بثأرها بوجوده وبوجود القوانين الناظمة التي هو مخوّلٌ به تطبيقها في أرض الملعب. وفي أثناء المداولات بين الحكم ومساعديه، كما غرفة الإعادة، للتثبت من الواقعة بدقّة، يرتمي عليه لاعبو الطرفين شارحين وجهة نظرهم المتعاكسة، ومحاولين، كل من جانبه، إثبات أن أول الجناة هو الآخر، وأن ما ارتكبوه هم لم يكن إلا ردّة فعلٍ لا تتناسب، لا حجماً ولا موضوعاً، مع "الاعتداء" الأول للاعب الخصم. في معظم الأحيان، تنتهي الأزمة عندما يحسم الحكم قرارَه، ونادراً ما تتحوّل إلى مشكلةٍ أعمق يوجِد الحلول لها اتحاد الكرة ويعاقب من يعتبره المسؤول عن الشغب الحاصل. وينتهي الأمر.

استمعت منذ أيام إلى حوار مباشر بين سوريين عن سبل عودة السلام إلى البلاد، وما يمكن أن يترتب عن ذلك من عودة اللاجئين وبدء مسار إعادة الإعمار وإنعاش الاقتصاد. ويبدو أن من نظّم الحوار ودعا إليه كان يسعى، بحسن نيةٍ، إلى أن يلعب دور المُصالح الذي يحاول أن يُقرّب من وجهات النظر المتباعدة بين أطرافٍ متصارعةٍ على مدى الوطن، وليس حصراً في حدود ملعب كرة القدم او أية كرة أخرى أو أي عضو بشري آخر. ويبدو أن منشّط الحوار هو ممن تلقّوا تدريبات عالية المستوى في حلّ النزاعات وفي تيسير الحوار بين أطراف مختلفة للوصول إلى حلول وسط أو نقاط اتفاق مشتركة في حدودها الدنيا، ليُصار بعدها إلى تصوّر سبل العيش المشترك في الإطار الجغرافي نفسه. أو، وفي أسوأ الأحوال وفي أبغض الحلال، الانفصال بطريقة سلمية بحيث يكون لكل طرفٍ جزءٌ من "وطن" ساهم نزاعهما، في تفتيته وزواله بشكله القائم على الأقل. النزاع الذي لم يجد له أحد، لا هم ولا من أجّجوه، حلولاً مناسبة.

ما لفتني في الحوار الذي جرى بين السوريين، وأظنّه ليس استثناءً من القاعدة المنتشرة هذه الأزمان، سعي كل طرفٍ من الأطراف المشاركة فيه لتبنّي سردية يُثبت من خلالها أنه الضحية الوحيد، وأن المعتدي هو الآخر الذي بادر أولاً، وأن ما قام هو به من عملٍ عنفي، إن وقع، لم يكن إلا رد فعل على ما اقترفه الآخر بحقّه. وبالتالي، ومن وجهة نظره طبعاً، الآخر هو عدو الحق وعدو العدل وعدو الإنسانية. وبذلك، لا حاجة للمتابع أن يُميّز بين الأطراف لتعرف من الطرف الأول أو الثاني أو حتى الثالث والرابع، لأنهم كلهم يتبنّون خطاب الضحية الذي اضطرّته الظروف القائمة إلى ارتكاب ما يتهمه الطرف الآخر به. وهكذا دواليك.

في لعبة كرة القدم كثير من السياسة، ولكن السياسة ليست لعبة كرة قدم

في الأشهر المقبلة، ستعزّز بعض الدول العربية، التي طبّعت علاقاتها مع النظام السوري في العلن، بعد أن كانت على تواصل مستمرّ معه في السر، الشعور الدولي بالحاجة إلى مثل هذه الحوارات. وستؤازرها في ذلك مؤسّسات مدنية دولية تبحث عن السلام وعن الأرضيات المشتركة، وهي التي نجحت أحياناً في رأب جزءٍ من الصدع في دولٍ عرفت حروباً أهلية. وبالتالي، ستكثر النشاطات المشابهة، التي تتبنّى تنشيطها إرادات طيبة. في المقابل، يغيب، نظرياً على الأقل، عن المنظمين وعن المشاركين من جميع الأطراف، أن الأمر الذي تجري معالجته ليس مباراة في كرة القدم أو سواها من المنافسات الرياضية التي يتقابل فيها فريقان يسعى كل منهما للفوز بما أوتي من جلمود إرادة، وبما أوتي به من تدريب وتحضير. ومن المفترض أن تعي مختلف الأطراف، وخصوصاً التي تسعى للمساهمة في صنع "الخير والسلام"، أن الوضع في سورية أقرب إلى المسرح الروماني الذي كان يوضع فيه مدنيون عُزّل في وسط حلبته الترابية لتطلق عليهم الوحوش البشرية والحيوانية من كل حدبٍ وصوب، وليلاقوا مصيرهم المحتوم موتاً أو تشويهاً. ويجري هذا كله أمام جموع غفيرة من "الشبّيحة" المنتشين بسيول الدماء وأكوام الأشلاء. ويتصدّر المنصّة صاحب السلطان، قيصر الزمان، رئيس القطعان وسارق الأمان، وهو محاطٌ بحاشية من المتمجدين والمنتفعين والأزلام.

في هذا المناخ المغبرّ والمُدمّى الذي تتواجه في أتونه كتلتان غير متساويتين، لا في المسؤولية ولا في المقدرة: كائنات بشرية مُجرّدة من الحقوق ومثقلة بالقيود ومُحمّلة بالخوف أمام قوة البطش التي تعتقد أنها لا تملك فقط الأرض والسماء، بل كل من خطا على الأولى وحلّق في الثانية. ولا مجال منطقياً لكي يتحاور خلاله قيصر روما مع ضحايا المضمار. وأخيراً وليس آخراً، في لعبة كرة القدم كثير من السياسة، ولكن السياسة ليست لعبة كرة قدم.