بيليه ضوؤنا الأسود
ودّع الملاعب وظلّ يلعب في أعيننا، نحن الذين أردنا "جوهرة سوداء" تنير نهاراتنا المظلمة... بهذه السردية المكثفة وحدها نجلو خفايا أسطورة العصر الحديث، بيليه، الذي اختاره القدر ليكون محرّراً جديداً للعبيد البيض والسود معاً، وعلى نحو مغاير لمألوف سابقيه.
لنقل، أولاً، إن العالم لم يفقد يقينه بالأساطير، مع اختلاف يسير، قوامُه أن عالمنا لم يعد مهتمّاً بالأساطير الغابرة قدر اهتمامه باختراع أسطورة عقلانيّة، يستطيع لمسَها ورؤيتها ماثلةً أمامه، ويريد أن يحرّر هذه الأسطورة من غيبيّاتها، لتحرّره هو من واقعه.
ولأن الأمر على هذا النحو، ينبغي، إذاً، أن تكون للأسطورة خلفية مستمدّة من فناء العالم الخلفي، من أزقّة المهمّشين والمعذّبين، ومن أوساط العبيد الجدد، الذين يُسترقّون بشكل غير مباشر، لصالح سادةٍ لا يحملون السوط والعصا. ولكن لديهم من أدوات الاستعباد غير المرئيّة، ما يفوق السوط والحظائر، على غرار عصا المال، والنهب، والتلاعب بمصائر البشر، وامتصاص قوة العامل، وجعله عبداً غير معلنٍ لمن يجود عليه برمقٍ يبقيه على قيد الحياة، فضلاً عن صنوف استعبادٍ أخرى، يُمارسها الطغاة والمستبدّون.
حقّق بيليه شروط الخلفيّة، عندما قدم من عشوائيّات البرازيل فتى فقيراً بائساً، عاش حياة الحرمان والجوع، في دركها الأدنى. والأهم أنه يمتلك ميزة البشرة السوداء، التي تذكّر العالم بمرحلة استعباد الزنوج المختطفين من أدغال أفريقيا، على متن بواخر الموت الأميركية والغربية، لتبدأ من هناك حقبة بشرية "سوداء" غير مسبوقة، عاشت في الفناء الخلفي لحقبة نظيرة "بيضاء"، عنوانها التطوّر والازدهار والابتكار، وعصر الآلة البخارية. وهذه كانت الواجهة الأمامية لعالمٍ "مبتسم"، مشرع الذراعين لثوراتٍ صناعيةٍ وحضاريةٍ مقبلة. أما الواجهة الخلفية، فظلّت على هامشيتها، وبؤسها، ودونيّتها، وإن تبجّح "السادة" بأنهم حرّروا العبيد، وردّوا الحقوق لأهلها، لأن الإحساس بالعبودية لم يفارق أجيال الزنوج الجدد، الذين ما زالوا يشعرون بأنهم في الصفّ الثاني، التابع، الذي تآلف مع الحقّ المنقوص، حتّى ظنّه الحقّ الكامل.
أمّا المهمّشون في العالم الثالث، ولا سيّما في أفريقيا (خزّان العبيد)، فكان بيليه أسطورتهم الجديدة أيضاً، لأنّهم نظروا إليه معادلاً موضوعيّاً لما كان ينبغي أن يكون عليه "الرجل الأسود" لو لم يستعمره "الرجل الأبيض"، ويختطفه من بين أطفاله، ليرسله مكبّلاً بالسلاسل إلى أدغال أميركا "البيضاء"، وغابتها التي يأكل فيها الشبعان الجياع، على خلاف عهده بغاباته التي لا يأكل فيها غير الجائع فقط.
أيضاً، للإنصاف، لم يكن بيليه للسود فقط، بل لكثيرين من البيض المستعبدين برأس المال، والقمع، والكبت، من ذوي الثروات المنهوبة، داخليّاً وخارجيّاً، وهؤلاء يعيشون أيضاً، في الفناء الخلفي للعالم، ويحقّق لهم بيليه معادلاً موضوعيّاً لحريّةٍ يطمحون إليها، ولا سيما أن النهب الأكبر لأوطانهم يزاوله سادة الغرب الذين لم يتخلّصوا بعد من عقدة السيادة والاستعلاء.
لا نجانب الحقيقة، كثيراً، إن قلنا إن بيليه لم يكن فريد عصره بمهاراته الكروية. لكن هناك من أراده فريداً، ومن كان يدفعه دفعاً باتجاه الملعب الآخر، عقب خروجه من الملعب الأول، وإن هناك من كان يتشبّث بردائه الأصفر كلما أراد خلعه. والحقّ أن بيليه قرأ رسالة المعذّبين والمهمّشين جيداً، فامتثل لهم، وظلّ لاعباً دوليّاً بامتياز خارج الملعب، بدليل أنه لم يبتر تواصله مع هذه الفئات غداة اعتزاله، كذلك عقد صداقاتٍ وطيدةً مع رموز التحرّر في العالم، من أمثال نيلسون مانديلا، على غرار ما كانت تفعله أسطورة أخرى، تمتلك شروط اللعب نفسها خارج الحلبة، محمد علي كلاي، أو الجوهرة السوداء الثانية، التي حملت هي الأخرى "عبء الرجل الأسود" الجديد، الذي تمرّد على دور إمتاع البيض المتفرّجين حول الحلبات، ليخترق صفوفهم ويوجّه اللكمات إلى ضمائرهم، وكان عليه، أيضاً، أن يضيء، هو الآخر، بسواده اللامع، نهاراتنا المظلمة.