بيروت .. في انتظار الياسمين
يزهر الياسمين العادي أو الشائع في بداية فصل الربيع، ويمكن أن يزهر في الصيف. أما الشتوي، فيزهر من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني إلى مارس/ آذار، وهو صنف ذو أزهار قوية، تتحمّل الظروف المناخية القاسية. ووفقًا للتقاليد الآسيوية والعربية، الياسمين زهرة ترمز إلى السعادة.
تزهر الياسمينة في مختلف ظروف المناخ، لتنثر روائحها العطرة في أرجاء الأمكنة، وتعطي لمتنشقيها بريق أملٍ وسعادةٍ بيوم جديد أفضل. تحاكي الصورة السوريالية أولئك الناس في بيروت الذين ملّوا انتظار رجاء الخلاص من أزماتهم المتلاحقة، في وقتٍ تلاحقهم لعنة الحرب الأهلية التي تجلّت على خلفية مطالبة الثنائي الشيعي بإقالة القاضي طارق بيطار من موقعه في قضية انفجار مرفأ بيروت، فبالأمس القريب في شوارع الطيونة، على خطوط التماسّ بين منطقتي الشياح ذات الأغلبية الشيعية وعين الرمانة ذات الأغلبية المسيحية، أعادت حرب الشوارع والقنص والاختباء صورة الحرب الأهلية التي ظنّ اللبناني أنه تخطّاها.
احداث أليمة تطلّ على اللبناني، بين حين وآخر، لتضعه أمام قلق الحرب والتهجير والموت من جديد، فهل ستنتظر بيروت أزهار الياسمين طويلًا لتنبض الحياة فيها سلامًا وحبًا وسعادة، وتعود إلى سابق عهدها كما وصفها نزار قباني "ستّ الدنيا"؟ انتظرت بيروت أزهار الياسمين في خريف عام 2019، فقد شهدت ساحاتها تظاهراتٍ ملأت شوارعها بنزول الناس، رفضًا للطبقة الحاكمة التي أوصلت البلاد إلى أعمق أزمةٍ عرفها تاريخ لبنان. انهيارات بالجملة، وتدنٍّ بشكل هستيري لسعر صرف العملة الوطنية، إضافة إلى زيادة كبيرة في الفقر والبطالة وارتفاع طلبات الهجرة وأعداد المهاجرين، وقد شهدت بيروت، كما سائر المناطق، طوابير على المحروقات والأفران والمصارف، وباتت الفوضى تلوحُ في الأفق منذرةً بالارتطام الكبير لهذا البلد.
لم يلتزم حكّام لبنان بوعودهم المجتمع الدولي بالقيام بالإصلاح والمحاسبة، على الرغم من تطميناتٍ حصل عليها رئيس الحكومة
لم يزهر ياسمين بيروت بعد هذه الثورة التي استغلتها الأحزاب، فسيّست أحلام الناس بالتغيير والمحاسبة، وأدخلت عليها روح الطائفية والمناطقية، فضاعت الثورة وضاعت الآمال بغدٍ أفضل. الجميع استغلّ وجع الناس وقلقهم على مستقبلٍ بات مجهولًا وينتظر اللاشيء، فتحوّل شعار الثوار "كلّن يعني كلّن"، إلى "كلّن إلا زعيمي". سقطت الثورة، أو بالأحرى أُسقطت، فسقطت معها رياح التغيير، وأطاحت أزهار الياسمين وتركت بيروت حزينة.
لم تمضِ سنة على الثورة، إلّا وشهدت بيروت انفجارًا في 4 أغسطس/ آب 2020، صُنّف الأقوى في العالم، إلى درجة أن بعضهم أطلق عليه اسم "بيروتشيما" نسبة إلى القنبلة الذرية التي ضربت مدينة هيروشيما اليابانية. تطايرت الجثث في بيروت المنكوبة جرّاء الانفجار، وارتفعت أعداد الجرحى، ودُمّرت أحياء المدينة، وأتى الرئيس الفرنسي، ماكرون، يلوّح بياسمينة فرنسية، حملها إلى بيروت ضمن مبادرة إنقاذية للبلد. وجلّ ما ينتظره العرب كان قرارًا بعدم تدخل بعض أحزاب هذا البلد في الشأن العربي، وعدم التموضع في المحور الذي تقوده إيران في المنطقة.
لم يلتزم حكّام لبنان بوعودهم المجتمع الدولي بالقيام بالإصلاح والمحاسبة، على الرغم من تطميناتٍ حصل عليها رئيس الحكومة، نجيب ميقاتي، في لقائه مع المدير الإقليمي لدائرة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في البنك الدولي، ساروج كومار جا، إذ أعلن الأخير "أن اللقاء كان جيدًا، بحثنا فيه بالأوضاع وركّزنا على الإصلاحات في قطاعي المرفأ والطاقة وغيرهما". لكن عن أي إصلاحاتٍ يتحدّثون، والخلافات مستمرة بين الرئاستين، الأولى والثانية، في الدولة اللبنانية؟ وما قضية طلب الثنائي الشيعي تنحية القاضي البيطار إلا إشارة لتسليط الضوء بشكل واضح على عمق الخلاف بينهما، فقد هدّد الثنائي، حركة أمل وحزب الله، بتطيير حكومة نجيب ميقاتي إن لم يتم عزل القاضي البيطار من منصبه محققًا عدليًا في قضية المرفأ، لغايةٍ في نفس يعقوب، وهذا ما لا يريده الرئيس ميشال عون، انطلاقًا من إيمانه بمبدأ فصل السلطات، إذ لا صلاحية لمجلس الوزراء بعزل قضاة، أو التدخل في سير التحقيقات.
قد لا يزهر ياسمين بيروت، لا في هذا الخريف ولا حتى في الصيف، فلبنان ينتظر التسويات الإقليمية، لا سيما المعلّقة بين السعودي والإيراني
كادت مطالبة الثنائي الشيعي بتنحية القاضي البيطار أن تأخذ لبنان إلى حربٍ أهليةٍ من جديد، وكانت المشهدية بحاجة فقط إلى بوسطة عين الرمانة لتكتمل، وتشتعل الحرب اللعينة. حرب انتهت لكنها لم تمت؛ فكيف تريدونها أن تنتهي ولم يزل زعيم المليشيا رئيسًا ومسؤولًا، والنفوس كل يوم تشحن طائفيًا ومذهبيًا بخطاباتٍ لا تحمل إلا لغة الكراهية والحقد والتعصب.
تكفي نظرة إلى الوقائع المتدحرجة في المشهد الداخلي، للتأكد من أن لبنان يتّجه مسرعًا نحو جهنم التي وُعد بها يومًا، وأن الطريق إليها باتت معبّدة بمفخّخات وفتائل انفجار رهيب، فلبنان في هذه الأيام عالقٌ بين فكّي كماشة، يضغطان على مصيره؛ فمن جهةٍ الاهتراء الاقتصادي والمالي الذي استأنف مساره الانحداري، وعادت معه السوق السوداء إلى دفع الدولار صعودًا، ومن جهة ثانيةٍ الانقسام الحاد حول تحقيقات المرفأ، والتي تجاوزت بُعدها القضائي إلى استنفارٍ سياسيٍّ واصطفاف طائفي ينذر تفاعلُه بشرٍّ مستطيرٍ لا يبقي من البلد شيئًا، ويجهز على كامل الهيكل.
أخيرًا، قد لا يزهر ياسمين بيروت، لا في هذا الخريف ولا حتى في الصيف، فلبنان ينتظر التسويات الإقليمية، لا سيما المعلّقة بين السعودي والإيراني؛ كيف لا وهو قد زجّ نفسه في هذا الصراع الدائر في المنطقة؟ ولن تزهر طالما لم تتغيّر العقلية اللبنانية ذات الانغماس الطائفي والأبعاد المذهبية، فلا النظام التربوي عمل على تغيير هذه المذهبية، ولا المحاسبة قامت بدورها وحاسبت زعماء المليشيات على أفعالهم؛ لذا، ستبقى بيروت تنتظر... ولن يزهر الياسمين.