بيدرو سانشيز رجل دولة يبحث عن مجد
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.
أعاد رئيس الوزراء الإسباني، بيدرو سانشيز، بمواقفه الدبلوماسية وآرائه السياسية، إلى الأذهان صورة رجل الدولة الذي صنع أمجاد الاتحاد الأوروبي، فزعيم الاشتراكيين الإسبان يُمعِن، منذ يونيو/ حزيران 2018، تاريخ تولّيه قيادة الحكومة في مدريد، في معاكسة رياح الشعبوية اليمينية التي تهبّ على حكومات القارّة العجوز من كل جانب. وذلك بالسعي نحو إثبات أن السياسة فن الممكن، وليست ما يطلبه الجمهور، ما قاده إلى حلّ البرلمان، والإعلان عن انتخابات تشريعية مبكّرة، غداة خسارته الانتخابات المحلية والإقليمية.
استعاد زعيم الاشتراكيين رئاسة الوزراء بعد خمسة أشهر من السجال السياسي المحتدم داخل المملكة، من دون تخلٍّ عن مبادئه أو تفريطٍ في قناعته، كما حدث مع عدة زعماء أوروبيين في أكثر من عاصمة. وحافظ على مواقفه، من دون أدنى اهتمام بتكلفتها، فكان الرجل، على سبيل المثال، صوتا نشازا، بمعية أقلية، في أوروبا، ممن دانوا الهجمات الوحشية الإسرائيلية على قطاع غزّة، مؤكّدا تمسّكه بتصريحاته، لأن المسألة "ليست سياسية بل إنسانية"، ما دفع إسرائيل إلى سحب سفيرها تعبيرا عن الاحتجاج. بالموازاة مع ذلك، دعا الساسة الإسبان إلى ضرورة اتّخاذ قرار الاعتراف بفلسطين دولة مستقلة، بعيدا عن أجندة الاتحاد الأوروبي.
داخليا، قام بيدرو سانشيز، بعد فشل ألبيرتو نونييز فييخو؛ قائد الحزب الشعبي المتصدّر، في نيل ثقة البرلمان لتشكيل الحكومة، بمناورة سياسية كبيرة، خلطت الأوراق في مشهد سياسي مشلول أشهرا. تمثلت في إبرام صفقة مثيرة، مع حزب "معا لأجل كتالونيا"، تكفل دعم الحزب الاشتراكي الذي حل ثانيا في الانتخابات، لنيل الأغلبية في البرلمان (176 من أصل 350 مقعدا)، ما يضمن استمرار الحزب في قيادة الحكومة أربع سنوات مقبلة، نظير منح العفو لمئات من أعضاء وقيادات الحزب الانفصالي، ممن حوكموا بسبب مساعيهم، ما بين 2012 و2023، نحو استقلال الإقليم، بما في ذلك استفتاء الاستقلال الفاشل عام 2017.
استعاد زعيم الاشتراكيين رئاسة الوزراء بعد خمسة أشهر من السجال السياسي المحتدم داخل المملكة
العفو مقابل الدعم معادلة اختلف بشأنها الإسبان بين مؤيّد ومعارض، فأنصار الاتفاق يرونه خطوة جيدة، من زعيم اليسار، لتهدئة التوترات الداخلية بين مدريد ومنطقة الشمال الشرقي الغني، فالعفو سيكون إيجابيا لإسبانيا؛ لأنه سيخفّف من حدّة الاحتقان في الإقليم تجاه المركز، لا سميا وأنه يشمل كذلك إلغاء 15 مليار يورو من ديون كتالونيا، فضلا عن تفويت اختصاص خدمة السكك الحديدية إلى حكومة الإقليم في برشلونة. اتفاق تاريخي، من شأنه تعزيز الثقة بين الجانبين، ناهيك عن أنه بداية مرحلة جديدة في صراع قديم، تعود نشأته إلى بدايات القرن الماضي (1922)، تنعدم فرص حله بعيدا عن السياسة.
خلافا للمعارضين الذين اعتبروا أن رئيس الحكومة انبطح أمام الانفصاليين، بمنحهم هدايا ومكافآت على السلوك الإجرامي في حقّ الوطن، اتهم المتظاهرون في شوارع كبرى المدن الإسبانية قائد الحزب الاشتراكي بالخيانة، فكل هذا السخاء نظير سبعة أصوات للبقاء في رئاسة الوزراء. وبلغت حدّة الرفض بزعيم حزب الشعب درجة وصف بيدرو سانشيز بأنه "رئيس وزراء اشترى منصبه مقابل الإفلات القضائي لحلفائه من العقاب". وحاول ساسة آخرون التعاطي مع المسألة بمنطق السياسة، مطالبين بتنظيم انتخاباتٍ جديدة، بمبرّر أن فكرة العفو لم ترد في البرنامج الانتخابي للحزب الاشتراكي، ما يجعل الخطوة فاقدةً أي سند. وظهرت الأصوات المعارضة للاتفاق حتى في أوساط القضاء، فقد عبّرت النقابات المهنيّة الأربع التي تمثل القضاة في المملكة الإسبانية عن امتعاضها من هذه الصفقة، التي اعتبرتها تدخّلا واضحا في استقلال القضاء، وانتهاكا صارخا لمبدأ الفصل بين السلطات، وخيانة صريحة لسيادة القانون.
نجح الإسبان، قبل نصف قرن، في تدشين تجربة ديمقراطية فريدة، استطاعت تصريف تركة ثلاثة عقود ونصف العقد من الحكم العسكري
ودافع رئيس الوزراء، وباستماتة، عن موقفه الذي اعتبره مهمّا للتعافي الوطني، فالعفو الذي شمل 1400 شخص، بمن فيهم الرئيس السابق للإقليم كارلس بوتشدمون الذي هرب إلى بلجيكا، بعد أن أقاله رئيس الوزراء في مدريد، بسبب دوره في استفتاء عام 2017، جاء حسب سانشيز "باسم إسبانيا، ومن أجل مصلحة إسبانيا، ودفاعا عن التعايش بين الإسبان". بهذه الخطوة، يظهر زعيم اليسار مصمّما على الاستثمار في تواري المدّ الانفصالي في أوساط الكتلان، فأحدث استطلاعات الرأي تؤكّد تراجع دعاة الاستقلال؛ فنسبة 52٪ ضد الانفصال، بعدما كانت في حدود 43,6% عام 2017، لذا لم يتردّد في التأكيد على أن "كتالونيا مستعدّة لإعادة التوحيد الكامل".
نجح الإسبان، قبل نصف قرن، في تدشين تجربة ديمقراطية فريدة، استطاعت تصريف تركة ثلاثة عقود ونصف العقد من الحكم العسكري، بقوانين تحفظ حقوق المواطنين ومؤسّسات تضمن تمثيلية الجميع، فجمع البرلمان الإسباني حينذاك أنصار الملكية ودعاة الجمهورية، وضم الوحدويين والانفصاليين، في تركيبة اعتقد كثيرون أنها نقطة ضعف الديمقراطية الإسبانية. قبل أن تثبت الممارسة أن تلك التوليفة هي السرّ الذي جعل من المملكة رابع اقتصاد في أوروبا، والثالث عشر في قائمة أقوى الاقتصاديات عالميا.
يحاول رئيس الوزراء بيدرو سانشيز من موقعه رجل دولة، يعي جيدا المخاطر الجمّة التي تهدّد الدولة القومية في السياق الأوروبي، استعادة هذا السر لمجابهة حمّى الانفصال المتوقدة في الأقاليم. لذلك لم يتوان في البحث عنه، فتحوّل أعضاء حزب سياسي "معا لأجل كتالونيا" يطالب بتقرير المصير إلى مولدٍ أعاد الحياة إلى مشهد سياسي أصيب بالشلل. فضلا عن أنه رسالة قوية إلى دول الجوار الأوروبي؛ كفرنسا وألمانيا... الغارقة في دوامة الإقصاء والعنف والتطرّف، بشكل يهدّد وحدة المجتمع والدولة وسلامتهما معا.
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.