بن لادن يحب "شاهد على العصر"

20 مارس 2016
+ الخط -
يوصي أسامة بن لادن، في واحدةٍ من الوثائق التي عُثر عليها في المنزل الذي كان مختبئاً فيه في باكستان، وقتلته فيه قوة أميركية، بالعمل على "رفع وعي الشعوب"، ويناشد "الصادقين في الأمة، ولا سيما أهل الرأي والكلمة والمال، أن يستنفروا جهودَهم لتوعية أبنائها". وقد قدّم الزميل بدر الراشد، في "العربي الجديد" أمس، إطلالةً على أهم مضامين هذه الوثائق، كما نشرتها الاستخبارات الأميركية. ولا يخاطب بن لادن فيها أنصارَه وأتباعه في "القاعدة" وأشباهها فقط، وإنما "الأمة الإسلامية عامة" التي يُخبرها أن "الوعي من أهم العوامل لقيام الثورة ونجاحها". وبدا لافتاً في رسالةٍ، في هذا الخصوص، أنه جاء على كتبٍ محدّدة، نصح بقراءتها. كما جاء عرَضاً على برنامج "شاهد على العصر" الذي تبثه قناة الجزيرة، في إشارةٍ لها أهميتها، يرميها زعيم "القاعدة" المؤسّس في معرض مطلبه الاطلاع على الوثائق والشهادات من داخل الأنظمة العربية "من وزرائها وضباطها السابقين"، بحسبه، وهي الأنظمة التي يراها جديرةً بالثورة عليها.
يورّطنا أسامة بن لادن في حيرةٍ ظاهرة، ما إذا كانت تثنيته على "شاهد على العصر" لصالح البرنامج، أم تخصِم من قيمته. وهل الذي أعجبه، وهو من هو في التطرّف والإرهاب، هو نفسه مقصد البرنامج الشهير، أي فضح الشهود على العصر الأنظمة السياسية التي كانوا فيها "وزراء وضباطاً"؟ هل هذا هو الغرض الأوضح لمعدّ البرنامج ومحاوره أحمد منصور، أم أن "شاهد على العصر" ليس معنياً بغير تقديم روايات شهودٍ على وقائع وأحداثٍ عربية مضت، بما يخدم المشتغلين بالتاريخ وقرّائه ودارسيه؟ هل أحدث البرنامج تحولاً في قناعات مشاهديه؟
يوفر "شاهد على العصر" وثائق مهمة لمطالعة الزمن العربي الحديث، ولا سيما بعد الاستقلالات الوطنية في غير بلد، وفيما كل شهادةٍ أو روايةٍ في التاريخ تبقى انتقائيةً من صاحبها، وتظل غير وافية تماماً، ما لم تستكمل بعناصر وجوانب أخرى في المشهد العام، إلا أن ذلك لا ينفي القيمة الخاصة لشهادات الضابط السوري، عبد الكريم النحلاوي، والبعثي العراقي العتيق صلاح عمر العلي، والكولونيل المصري سعد الدين الشاذلي، والرئيس الجزائري أحمد بن بلة، وغيرهم كثيرون. على أن التأشير إلى هذا البديهي لا يغيّب حقيقةً ظاهرة، موجزها أن أحمد منصور تخندقَ في محاوراته مع ضيوف غير قليلين، في موقع من يقصد وجهةً محددةً سلفاً، وغرضاً ثابتاً، وهو تحطيم جمال عبد الناصر، وإعمال كل أدوات هدم الرجل وشطبه وتصويره فاشلاً مغامراً. وقد تعاطى مع بعض ضيوفه، وكأنهم صيدٌ ثمينٌ من أجل تسديد ضرباته هذه.
وليس الأمر بخصوص الزعيم المصري الراحل معزولاً أبداً عن غرضٍ مركزي، شديد الوضوح في مسار البرنامج، وهو نزع أي مضمونٍ تحرّري وأي إسهامٍ نهضوي عن تجارب القوميين العرب بين الخمسينيات والسبعينيات، والذهاب إلى مطارح السَّوْءات (وهي كثيرة) فيها. ومع التسليم بأهمية المنظور النقدي إلى أي تجربة سياسية، أياً كانت، ومع الإقرار بأن سذاجاتٍ وفيرة اتصف بها سياسيو ذلك الزمن، في المشرق العربي خصوصاً، وبأن انعدام الديمقراطية والإيمان بالحريات العامة في مزاولتهم السلطة كان من أبرز أسباب فشلهم، إلا أن هذا كله (وغيره) لا يستقيم طرحه من دون تثمين أدوار أولئك الناس في بناء دولٍ عربيةٍ ناهضة، في التعليم والصناعة والزراعة، والتنمية عموماً، وكذلك من دون تقدير ما كانوا عليه (في أغلبهم) من نزاهةٍ ونظافة يد. وفي زمن التردّي الفادح في الحالة العربية الراهنة، على مستوى المنتوجية والمردودية، في نوعية التعليم مثلاً، وفي انحسار العدالة الاجتماعية، مع النفوذ العميم للفساد، لا يمكن إلاطلال على ستينيات الزمن العربي وخمسينياته وبعض سبعينياته إلا بشيء من التأسّي. لم يكترث "شاهد على العصر" بشيء من هذا كله، وانصرف إلى الهدم والشطب، بغرض أن تخلو الذاكرة العربية من أي بناءٍ أو منجزٍ وطني وتنموي، لقوميين وبعثيين وناصريين. .. هل هذا ما أحبّه أسامة بن لادن في البرنامج؟
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.