بعد مائة عام .. ماذا بقي من الحزب الدستوري التونسي؟
نهاية سنة 2020، يكون الحزب الحر الدستوري التونسي الذي قرّر الشيخ عبد العزيز الثعالبي، ومجموعة من رفاقه، في حركة الشباب التونسي، وفي التيار الإصلاحي، تأسيسه سنة 1920، قد تخطّى القرن، فكان ثمرة لقاء جمع خرّيجي جامع الزيتونة الأعظم، بنزعتهم المحافظة والحاصلين على دبلوم المدرسة الصادقية منبت النخبة العصرية، أفضى إلى بعث حزب وطني، يرمي إلى استرجاع تجربة دستور عهد الأمان لسنة 1861، ويكون بمثابة الأداة السياسية التي سترعى الفكرة الوطنية وتنشرها، وتخوض معركة مقاومة الاستعمار الفرنسي الذي قام في تونس، مستندا إلى اتفاقية 12 ماي (مايو/ أيار) سنة 1881. نشأ الحزب الحر الدستوري على الطريقة الأوروبية في تأسيس الأحزاب السياسية، وانتظم على قاعدة قانون أساسي، أو نظام داخلي، يضبط هيكلته ومؤسساته وشروط الانتماء إليه بالنسبة للتونسيين المسلمين منهم واليهود، تشرف عليه لجنة تنفيذية، تتركب من أمين عام وأمينين مساعدين وأمين مال عام وأمين مال مساعد، ومجلس يماثل المجلس الوطني في أحزاب اليوم.
وضع الحزب برنامجا يهدف في مجمله إلى "تحرير البلاد التونسية من نير العبودية حتى يتمكن الشعب التونسي من التمتع بالحقوق والحريات التي تتمتع بها كل الشعوب الحرّة"، وفق ما دوّنه المؤرخ التونسي، علي المحجوبي، في كتابه "جذور الحركة الوطنية التونسية"، الذي فصّل القول في مختلف المطالب الوطنية والصيغ التنظيمية والممارسات النضالية وتضحيات هذا الحزب وقياداته. ولكن الحزب الدستوري سيشهد موجةً من الانشقاقات، أهمها انشقاق جماعة العمل التونسي، بقيادة الحبيب بورقيبة الذي التحق بالحزب في مايو/ أيار 1933، ومغادرته في شهر سبتمبر/ أيلول من السنة نفسها، وتأسيسه، في شهر مارس/ آذار 1934، الحزب الدستوري الجديد أو النيو- دستور كما هو مسوّق في الصحافة والوثائق الأمنية والاستعلاماتية الاستعمارية وفي اصطلاحات المؤرخين، وذلك كله في غياب زعيم الحزب ومؤسسه، عبد العزيز الثعالبي، الذي نفته سلطات الاحتلال الفرنسي إلى بلدان المشرق العربي والإسلامي 1923-1937، ولم تفلح عودته ومحاولته رأب الصدع وتوحيد الشقين، قبل أن يعتزل السياسة، ويتفرّغ للكتابة والتأليف، واستكمال فكره الإصلاحي.
نداء تونس ومشروع تونس وتحيا تونس وقلب تونس والحزب الدستوري الحر تشكيلاتٌ تلتقي في التزام البورقيبية وتستبطن في أغلبها الولاء لبن علي
استفاد حزب النيو- دستور من أحداث 9 أفريل (إبريل/ نيسان) 1938، المطالبة ببرلمان تونسي، على الرغم من طابعها المأساوي، ومن اندلاع الحرب العالمية الثانية، فقد كان لتلك الأحداث كبير الأثر على تجربة المجتمع السياسي التونسي ككل، لكنها عرفت تراجعا وانكماشا وربما اندثار الحزب الحر الدستوري القديم، المعروف باللجنة التنفيذية. في حين أصبح الحزب الجديد هو من يرمز إلى العمل الوطني ويقود الحركة الوطنية، خصوصا وأن تلك الفترة عرفت تولي الزعيم صالح بن يوسف خطة الأمين العام، ما أدّى إلى تنظيم الحزب على أسس جديدة، تتجاوز الطابع النخبوي الذي ميّز العمل السياسي التقليدي إلى الامتداد الشعبي في مختلف المدن والقرى والأرياف، هذا زيادة على دوره التأسيسي في انبعاث بعض المنظمات الوطنية، كاتحاد الصناعة والتجارة بقيادة الفرجاني بلحاج عمار، والاتحاد العام للفلاحة التونسية بزعامة الحبيب المولهي، والاتحاد العام لطلبة تونس الذي تولى أمانته العامة منصور معلى، وكسب دعم الاتحاد العام التونسي للشغل بقيادة فرحات حشاد والشيخ الفاضل بن عاشور. وبعودة الحبيب بورقيبة من المشرق العربي سنة 1949، سيخوض حزب النيو - دستور تجربة الحوار مع المستعمر الفرنسي، والمشاركة في حكومة محمد شنيق التفاوضية، لكن هذه التجربة انتهت سريعا، بسبب تمسّك فرنسا بالسيادة المزدوجة، وسجن أغلب القادة الدستوريين، ولجوء الوزير صالح بن يوسف إلى القاهرة التي تعيش على وقع ثورة 23 يوليو (1952)، قبل أن يشارك في مؤتمر باندونغ سنة 1955 الذي سيعرف ظهور منظمة عدم الانحياز، وتشكل العالم وفق نتائج الحرب العالمية الثانية، ويعود إلى تونس شهر سبتمبر/ أيلول 1955. وفي تلك السنة، سيشهد الحزب الدستوري الجديد تصدّعا عميقا وانقساما حادّا سيتحول إلى صراع دموي، وحرب تصفيات واسعة بين شقين، الأول يقوده الحبيب بورقيبة ويعرف بالديوان السياسي، والثاني يمثله صالح بن يوسف وأنصاره، ويعرف بالأمانة العامة، وذلك على خلفية الموقف من توقيع اتفاقيات الاستقلال الداخلي التي وقّعها رئيس الحكومة التونسية، الطاهر بن عمار، في باريس في 1 يونيو/ حزيران 1955، واعتبرها بورقيبة خطوة إلى الأمام، بينما اعتبرها بن يوسف خطوة إلى الوراء، داعيا المقاومة الوطنية المسلحة التي قام بتنظيمها في حزب جديد، يدعى حزب الأمانة العامة، إلى مواصلة الكفاح من أجل الاستقلال التام، معتبرا أن لا استقلال لتونس بدون تحرير بقية أقطار المغرب العربي، وأن اتفاقيات الاستقلال الداخلي والاستقلال التام هي خيانة للثورة الجزائرية.
تعرّض الحزب الدستوري، في نسخته التجمّعية، إلى عملية انتقام شعبية وعفوية لا مثيل لها، بحرق مقرّاته ومصادرة أملاكه
انتهت هذه المعركة بتصفية أغلب مناضلي الحركة اليوسفية، أو سجنهم، أو تهجيرهم بعد تجريدهم من أسلحتهم وممتلكاتهم، وتنفيذ حكم الإعدام في قادتهم، بمن فيهم صالح بن يوسف نفسه الذي نُفذ فيه الحكم اغتيالا سنة 1961، بعد محاكماتٍ صوريةٍ تولتها محكمة استثنائية، هي محكمة القضاء العليا، ليستفرد الحزب الحرّ الدستوري الجديد الذي غيّر اسمه سنة 1964 إلى الحزب الاشتراكي الدستوري بالحكم، بعد أن فاز ضمن الجبهة القومية التي ضمّت الاتحاد العام التونسي للشغل بجميع مقاعد المجلس القومي التأسيسي في الانتخابات التي جرت في إبريل/ نيسان 1956. وقد تولى بورقيبة رئاسة الحكومة، بتكليف من الأمين باي، لكنه أنهى بسرعة حكم البايات الحسينيين يوم 25 يوليو/ تموز 1957، وأعلن الجمهورية التي تولى رئاستها قبل أن يضع حدا سنة 1963 للتعدّدية الحزبية والحياة الديمقراطية الفتية وحرية الصحافة، بحظره نشاط الحزب الشيوعي التونسي، وما تبقى من الحزب الحر الدستوري القديم، كمقدمة لإقرار الرئاسة مدى الحياة بداية من 1975. ولكن تلك الإجراءات التسلطية لم تحل دون ظهور تياراتٍ معارضةٍ من داخل الحزب النيو- دستوري أو من خارجه، كحركة الوحدة الشعبية التي أسسها الزعيم النقابي والوزير أحمد بن صالح، وحركة الديمقراطيين الاشتراكيين التي انبعثت على يد أحمد المستيري ورفاقه، وحركة التجمع القومي العربي بقيادة البشير الصيد، وحركة الاتجاه الإسلامي بزعامة راشد الغنوشي، وحركتي آفاق والعامل التونسي، وحزب البعث العربي الاشتراكي. وقد عرفت عشرية الثمانينيات أرذل الأيام في عمر الحزب الاشتراكي الدستوري، بتزوير الانتخابات التشريعية سنة 1981 وإعفاء الوزير الأول محمد مزالي من منصبه، وهروبه إلى الخارج، واشتعال حرب خلافة الرئيس بورقيبة، وانهيار الدولة الاقتصادي والمالي سنة 1986، وهي الظروف التي تهيأت تلقائيا، أو بفعل فاعل، ليتولى الرجل القوي، زين العابدين بن علي، مقاليد السلطة سنة 1987. وكان بن علي مخيّرا بين بعث حزب جديد باقتراح من عالم الاجتماع، عبد الباقي الهرماسي، أو إعادة هيكلة الحزب الدستوري مع تغييرات طفيفة في التسمية والقيادة والبرمجة والمقاربة. اختار بن علي الخيار الثاني، بتأثير من قيادات الحزب النافذة ومراكز قواه، لينعقد مؤتمره الأول سنة 1988، بمسمّى التجمّع الدستوري الديمقراطي، ويعود به كما كان سنة بداية من سنة 1956 الحزب الواحد الذي يهيمن على الحياة السياسية، ويتولى تسيير الدولة، ويراقب المجتمع ضمن مقاربة أمنية شاملة. أما بقية الأحزاب والتنظيمات المختلفة والمعارضة والرافضة، فلا يتعدّى دورها الديكور السياسي أو النشاط الثقافي والنقابي والحقوقي، وإذا هي حاولت تجاوز المساحة المرسومة لها، فسيكون مصيرها التتبع الأمني والسجون والمعتقلات والمحاكمات الصورية، وحتى القتل والتشريد والتجويع، والأمثلة على ذلك كثيرة من مقرّبي النظام ومناوئيه.
تعرّض الحزب الدستوري، في نسخته التجمّعية، إلى عملية انتقام شعبية وعفوية لا مثيل لها، بحرق مقرّاته ومصادرة أملاكه، وحفظ ما بقي من وثائقه ونصوصه وبياناته، في الأرشيف الوطني، وحله بحكم قضائي في شهر مارس/ آذار سنة 2011، بعد أن امّحت من ذاكرة أغلب التونسيين أفضال هذا الحزب ودوره في الحركة الوطنية ومقاومة الاستعمار بين 1920 و1956، أو تأسيسه الدولة الوطنية وقيادتها لاحقا. وتعثّرت المحاولات المتكرّرة لبعثه من جديد تحت مسمّيات مختلفة، منها نداء تونس ومشروع تونس وتحيا تونس وقلب تونس والحزب الدستوري الحر، وهي تشكيلاتٌ تلتقي جميعها في التزام البورقيبية أيديولوجيا ورؤية سياسية، وتستبطن في أغلبها الولاء لبن علي وحكمه، وتفرّقها لعبة المصالح والمواقع والغنيمة والأمجاد الشخصية. ولعلّ من أسباب فشل إعادة إنتاج التجربة الحزبية الدستورية وتنقية صورتها مما علق بها من شوائب وآثام ضعف الرصيد الديمقراطي ومقتضيات التعايش والاختلاف والتداول، وتضخّم الأنا الزعامية، ومحاولة التأسيس من خارج الدولة لحزبٍ كان، في يوم ما، حزب الدولة بامتياز.