بعد الانتخابات النيابية الأردنية... مُفترَق طرق
أثارت الانتخابات النيابية، التي نُظّمت أخيراً في الأردن، آمالاً ومخاوفَ في الآن نفسه. على صعيد الآمال، هنالك تشبيه كبير لها بما حدث من انتخابات في العام 1989 (انتخابات مجلس النواب الحادي عشر)، التي اعتبرها الأردنيون نموذجاً حقيقياً للنزاهة والمصداقية، ولم يشهد الأردن بعد ذلك مُنعرجاً أو تحوّلاً في المشهد السياسي مثيلاً لها، بل كانت هنالك خطوات إلى الخلف من "مطبخ القرار"، وتغيير لقانون الانتخاب، ومواجهة مع المعارضة السياسية، وهو الأمر الذي وسم الفترة التالية كلّها، إلى أن جاءت انتخابات العاشر من سبتمبر/ أيلول الجاري، بعدما جرى إقرار تشريعات للانتخاب والأحزاب اعتُبِرت تقدّمية، وأحدثت تحوّلاتٍ مهمّة على صعيد السياسات، وجوهرية على صعيد المشهد الحزبي، فاستجدّ نشاط حزبي وسياسي ملحوظ منذ عامَين، وانتهى إلى انتخابات وصفت بأنّها على درجة عالية من النزاهة والمصداقية.
لم تكن هنالك مفاجأة واحدة، بل مفاجأتان (أو صدمتان) للمؤسّسات الرسمية وغير الرسمية، الأولى بالنتيجة الكبيرة لحزب جبهة العمل الإسلامي بالحصول على 17 مقعداً من أصل 41 مقعداً (وبواقع ثلث أصوات الذين اقترعوا على مستوى القائمة الحزبية الوطنية)، و14 مقعداً على صعيد القوائم المحلية - المحافظات، وبذلك حصل "الإخوان المسلمون" على 31 مقعداً من 138 عدد مقاعد مجلس النواب، وهو رقم من حيث المبدأ لا يتجاوز منطق الأقلّية المحدودة، ولا يُؤثّر على التوازنات الحالية في المعادلة السياسية داخل النظام السياسي، لكنّه رقم مهمٌّ وذو دلالةٍ على صعيد موازين القوى في الشارع، وفي تأطير حجم الإسلاميين فيه. في مقابل (الصدمة الثانية) عدم قدرة الأحزاب السياسية الرئيسة، التي كان هناك رهان عليها من مؤسّسات الدولة، مثل أحزاب، الميثاق الوطني، و"إرادة"، و"الوطني الإسلامي"، و"تقدّم"، في منافسة "الإخوان"، وحجم التمثيل المحدود جدّاً على مستوى القائمة الوطنية الحزبية (أعلنت بعض تلك الأحزاب إحرازها عدداً كبيراً من المقاعد، حصلت عليها من خلال القوائم المحلّية التي خاض أفرادها الانتخابات ضمنها، لكن ليس تحت لواء هذه الأحزاب وشعاراتها).
كانت الفجوة كبيرة بين الأرقام الواقعية وأرقام الاستطلاعات، ما أحدث عنصرَ المفاجأة في نتائج الانتخابات الأردنية
فشلت استطلاعات الرأي جميعاً، المُعلَنة وغير المُعلَنة، التي بنت عليها مراكز القرار قراءتها للمشهد والتوقّعات، فكانت الفجوة كبيرة بين الأرقام الواقعية وأرقام الاستطلاعات، وهو ما أحدث عنصرَ المفاجأة الكُبرى في النتائج، ما دفع سياسيين عديدين، في أروقة القرار وخارجه، إلى أخذ زمام المبادرة، للتأكيد على خطأ فكرة التحديث السياسي، والأخطاء الكبيرة (وفقاً لهم)، التي وقعت فيها لجنة تحديث المنظومة السياسية، بخاصّة ما يتعلّق بالقائمة الوطنية الحزبية على صعيد مجلس النواب، أو الدفع نحو زيادة عدد مقاعد الحزبيين خلال المرحلة المقبلة (كما نصّ قانون الانتخاب على نصف عدد مقاعد المجلس المقبل، وصولاً في مرحلة ثالثة إلى الأغلبية).
الآن، هنالك اتّجاه من النُخَب السياسية يدعو إلى التراجع عن هذا المسار ويُحذِّر من عواقبه، سواء بالمطالبة بإعادة فتح قانون الانتخاب والتراجع عن القائمة الوطنية الحزبية أو جعلها مفتوحةً وليست مغلقةً، أو تحويل فكرة الأحزاب السياسية نحو الدوائر المحلّية وليس الوطنية، بذريعة أنّ قوّة الإسلاميين التصويتية لم تكن في الدوائر المحلّية، بل في القائمة الوطنية، إذ حصلوا في القائمة الوطنية على أكثر من ضعف ما حصلوا عليه في القوائم المحلّية، بل يذهب سياسيون عديدون محافظون اليوم إلى تفسير النصّ، الذي يتحدّث عن زيادة عدد المقاعد الحزبية في مجلس النواب، بأنّه لا يعني (بالضرورة) القائمة الوطنية الحزبية، بل يمكن أن يحدث ذلك عبر مقاعد المحافظات، لأنّ أخذ مقاعد أخرى من المحافظات في انتخابات 2028 سيكون لعباً بالنار وتلاعباً بالاستقرار الاجتماعي والثقافي والسياسي.
تأسيساً على هذه النقاشات، يمكن أن نفهم كيف أنّ الانتخابات التي انتظمت قبل أسبوعين تثير هواجس أيضاً بقدر أكبر ممّا تثيره من آمال، ذلك أنّ الاتجاه المحافظ وجد في النتائج فرصةً لزيادة حجم التخويف من قوة الإسلاميين الصاعدة، ومن فلتان الأمور، وللدعوة إلى العودة خطواتٍ إلى وراء، ومراجعة مسار التحديث بأسره. في المقابل، تبدو القوى السياسية كافّةً في حالة من الذهول بعد نتيجة الإسلاميين، وفشل الأحزاب اليسارية باتجاهاتها المختلفة (الأيديولوجية والبرامجية – الوسطية)، في تحقيق أيّ نتيجة في الانتخابات، وعدم بلوغها العتبة الانتخابية، ذلك كلّه جعل، ليس من التيّار المحافظ فقط، خصماً للإسلاميين، بل ربّما التيّارات الأخرى، التي بدأت دعوات خجولة لمراجعة قانون الانتخاب وتغيير الاتجاه.
يبدو المشهد السياسي الأردني اليوم، بعد الانتخابات النيابية، عند مفترق طرق؛ ولعلّ السيناريو المتوقّع هو المضي إلى الأمام وفق المسار المرسوم، مع العمل على تحجيم قوّة الإسلاميين، ومراجعة التجربة الحزبية، وتحديد الأسباب التي أدّت إلى ضعف "أحزاب الموالاة"، والعمل على تصويب الوضع، ثم التراجع التكتيكي، وليس الرسمي، عن عديد من الفِكَر التي صاغت التوجّهات في المرحلة المقبلة، من ضمن ذلك إعادة التفكير في قانون الانتخاب ومراجعة المراحل المقبلة، وكيفية التعامل مع الشارع والمعارضة، وربّما إذا انفجرت الخلافات داخل مجلس النواب، وبين الإسلاميين والحكومات، وانتقلت إلى الشارع، فإنّ ذلك سيُعزّز مسارَ التراجع بدرجة أكثر وضوحاً عن المسار التحديثي المطروح حالياً.
قد تعزّز الخلافات داخل مجلس النواب وبين الإسلاميين والحكومات، وانتقالها إلى الشارع، مسار التراجع عن المسار التحديثي
ما هي المتغيّرات والعوامل التي ستتحكّم في ترسيم أيّ مسار سينجح في المرحلة المقبلة؟ ... منها الحراك النيابي ومدى نجاح فكرة بناء تحالف أغلبية من الأحزاب السياسية لمواجهة أقلّية إسلامية، ومنها ما يتعلّق بالحراك في الشارع وتفاعله مع عديد من المطالب السياسية للمعارضة، ومنها ما يتعلق بالوضع الإقليمي والانتخابات الأميركية المقبلة، ومنها يتعلّق بقدرة المعارضة السياسية وذكائها في تمرير المرحلة وتقديم رسائل معتدلة لا تعزّز حجج التيّار المتخوّف من مسار التحديث.
تبدو الأمور وكأنّ كثيراً من السياسيين والمسؤولين على درجة كبيرة من القلق من نتائج الانتخابات، وكأنّنا ندخل المرحلة القادمة بظهورنا من الباب، ونحن ننظر إلى وراء (المرحلة السابقة)، وكأنّه ليس من الطبيعي أن تكون هنالك نتيجةٌ مفاجئةٌ لصالح المعارضة، كما حدث في فرنسا وبريطانيا في آخر انتخابات.
على العموم، نجاح التجربة الديمقراطية في الأردن، وعدم الوقوع في فخّ النمطية التاريخية (التقدّم خطوة إلى الأمام وخطوتَين إلى الوراء)، يكمنان، وفق نماذج التحوّل الديمقراطي ونظرياته كافّة، في القدرة على الوصول إلى صفقة ما بين الجناح المنفتح في الدولة، والتيّار المُعتدِل في المعارضة، وعقلنة الخطابات والمصالح والمطالب ما بين الأطراف جميعاً، والسير بخطىً هادئةٍ متدرّجة إلى الأمام، وإلّا فإنّ السيناريو سيكون العودة إلى الوراء بصورة تكتيكية، تستبطن خياراً استراتيجياً واضحاً بإغلاق باب الانتقال الديمقراطي، الذي فُتح مع لجنة تحديث المنظومة السياسية.