بطولة المستشفيات
في غزّة وحدها، تتحوّل المستشفيات إلى مقابر. يتحدّث وكيل وزارة الصحة في غزّة، يوسف أبو الريش، عن انعدام الخيارات أمام إدارة مستشفى الشفاء، الأكبر في غزة، إزاء تكدّس الجثث في ساحات المستشفى ومحيطه، خصوصا بعد قيام الديدان والكلاب بنهشها، سوى دفنهم في مقابر جماعية (دُفنت 170 جثة في محيط المستشفى يوم الثلاثاء الماضي).
لو كُتب هذا في رواية لاعتُبر خيالاً مجنّحاً ومن ضروب الأدب العجائبي. ولو كان مشهداً في فيلم سينمائي لصُنِّف للكبار فقط، ولكنه في ظل المقتلة غير المسبوقة، الإبادة المعلنة، أصبح تفصيلاً ثانوياً في مشهدٍ بالغ القتامة، يكاد يكون قيامياً، حيث تُزلزل الأرض وتُخرج أثقالها، بينما الغزّي الأعزل، ذلك الذي لا يجد ماء يشربه، ولا سقفاً يحتمي به في عراء الكون كله، ما زال وحدَه، أمام مجزرة مفتوحة تستهدف وجوده كله، ومن مفارقات الحياة أنه ينتصر.
يعيدنا انعدام الخيارات إلى معسكرات الإبادة النازية التي تعرّض لها اليهود. وعلى صعيد المدونة اليهودية، يعيدنا مشهد غزة اليوم إلى "اختيار صوفي"، الفيلم الذي يسرد بلغة سينمائية فاتنة وبالغة القسوة مصير "صوفي" التي تُساق إلى معسكرات الاعتقال مع طفليْها، وعن قيام ضابط نازي بوضعها أمام الخيار الصعب: أن تختار واحداً منهما لإرساله إلى المحرقة. بأدائها الفذّ تقدّم ميريل ستريب (بطلة الفيلم، 1982) ذلك الاضطراب الوجودي والتشوّش الإنساني العاصف الذي يمكن أن يمرّ به الإنسان في مثل هذا الموقف. وأمام عدم حسمها رأيها يُنتزع منها أحدهما رغماً عنها... كانت تظن أن عليها أن تختار من ترى أنه قادر على النجاة، ولكن الفكرة نفسها لا إنسانية، فهي تدفع الإنسان إلى درَك الحيوان، ذلك الذي يبحث عن النجاة وحسب.
دفعت المدوّنة اليهودية للمحرقة حدود الألم إلى أقصاه. يتم تعرية المعتقل وسكب الماء عليه قبل تحويله إلى المعسكرات. وبهذا يتم تحويله إلى مجرّد جسد، بدائي، بلا كسوة حضارية، بلا ماضٍ، كأي حيوان يُهيأ للذبح بعد نزع أي صفة إنسانية عنه، وهو ما يقوم به الإسرائيليون أنفسهم اليوم في غزّة، أي تبرير القتل باعتبار الآخر أقلّ من أن يكون إنساناً، وما وصف وزير الحرب الإسرائيلي، يوآف غالانت، الفلسطينيين حيوانات سوى إعادة إنتاج لآليات النازية في تسويغ عمليات الإبادة، والحذو حذوَها من خلال الآليات والكلمات معاً.
تتحوّل المستشفيات المحاصرة في غزّة إلى معسكرات اعتقال وقتل غير رحيم وغير مسبوق على الإطلاق، وفيها يسعى أطباء أبطالٌ وأسطوريون لإنقاذ حيوات أبناء شعبهم، ويقومون بما لا يتخيّله إنسان يعيش في القرن الحادي والعشرين، فعلى الطبيب أن يُنقذ وأن يدفن، وأيضاً أن يتوقّع أن يكون أحد القتلى الذي يصلون إلى مكان عمله أحد أفراد عائلته، وقد يكون نجله أو شقيقته أو رفيق عمره، وعليه أن يودّعه سريعاً وأن يحبس دموعه قبل أن يعود إلى مزاولة عمله في مذبحة لم تستثن أحداً ولا مكاناً في قطاع غزّة كله.
بحثتُ، خلال كتابتي هذا المقال، عن أي موقفٍ لميريل ستريب في المذبحة التي تجري أمام أعين العالم كله فلم أجد، هل أصدرَت تصريحاً؟ عبّرت عن موقف؟ هل ستتذكّر دورها في اختيار صوفي إذا شاهدت صور الغزّيين الذين تُقطّع أجسادهم في القصف الإسرائيلي؟ وماذا سيكون شعورُها إذا عرفت أن أقصى طموح الغزّيين أصبح أن يُقتلوا بكامل أجسادهم؟ ألا تُجمع أشلاؤهم؟ إذا راودها هذا الشعور ستعرف أن اختيارها في ذلك الفيلم يبدو ساذجاً، وربما ترفاً أمام انعدام خيارات الغزّيين حالياً؟
لم يتردّد الدكتور غسّان أبو ستة في الاختيار مثلما فعلت صوفي. ترك عمله في لندن. ترك المستشفى الذي كان يعمل فيه آمناً هناك، وسافر على الفور إلى غزّة التي دخلها بجواز سفره البريطاني. إنه هناك في الخندق المتقدّم، إلى جوار مئات الأطباء الغزيين، الذين يعملون بلا توقّف، ليلَ نهار، لانتشال شعبهم من حفرة النازية الجديدة التي تريد ابتلاعهم كأنهم لم يكونوا. إنهم بلا خيار سوى أن يكونوا مع شعبهم. سئل مدير مستشفى الشفاء، الدكتور محمد أبو سلمية: ماذا سيفعل أمام دعوة الجيش الإسرائيلي إلى إخلاء المستشفى، فلم يتردّد لثانية واحدة: باقون معهم، فإذا ماتوا متنا معهم وإذا عاشوا عشنا.