بشار الأسد كما رآه أشرف غني
ليس الأهم في المقابلة التي بثتها قبل أيام قناة "بي بي سي" مع الرئيس الأفغاني السابق، أو المُطاح به أو المخلوغ أو الهارب، أو "المنصرف" كما يسمّيه موقع قناة الجزيرة أحياناً، أشرف غني، معرفة نسبة الصادق في كلامه، وفرزه عن المُبالغ فيه أو الكاذب. ولا المهم هو منح علامة لمستوى فشله مقارنة مع سلفه حامد قرضاي في مرحلة ما بعد 2001. لا داعي لهذا وذاك في ظل ما يشبه محاكمة شعبية للرجل جارية على قدم وساق، منذ هرب من كابول يوم 15 أغسطس/ آب. والطريف أنّ من بين "القضاة" الذين يحاكمونه يومياً في الإعلام ووسائل التواصل، مجموعة من محبّي التخريب الذي يرتكبه نظام إيران وأتباعه في المنطقة العربية، من الذين وجدوا ضالتهم في حكم "طالبان" مع أنّ إيرانهم تتأرجح في نظرتها إلى هذه الحركة بين الحذر والانفتاح، وهؤلاء "القضاة" لا يزالون يمارسون طقوس رمي الورود الحمراء في بحر العرب حداداً على زعيمهم أسامة بن لادن.
أشرف غني جدير بحمل لقب ملك الإخفاقات والحسابات الخاطئة. هذا واقعٌ لا علاقة له بهواية التشفي بالرجل. هو نفسه مارس النقد الذاتي غير الكافي لاختصار المصيبة التي يتحمل جزءاً كبيراً من مسؤوليتها: "أكبر خطأ ارتكبته" قال في مقابلة "بي بي سي" هو "الاعتماد على حلفاء أفغانستان، لقد وثقتُ في شراكتنا الدولية (أي أميركا) واتبعت هذا الطريق"، مضاف إلى ذلك كلام كثير عن تسليم الأميركيين البلد إلى "طالبان" في مقابل ضمان خروج آمن لقواتهم ورعاياهم من هناك، فضلاً عن تهميش الحكومة الأفغانية في مفاوضات السلام واتهامه زلماي خليل زاد شخصياً بوضع حكام كابول في فم الذئب. لكن من بين ما هو جدير بالتوقف عنده في المقابلة، أنّ غني (72 عاماً) يقدّم عيّنة عن السياسي الذي يمكن أن يكون إنساناً "طبيعياً" ولو كان ذلك بعد خروجه من السلطة، يُظهر ضعفه، يعترف به، يسلّم بمصيره، يعتذر، يقول إنّه أخطأ .. كلّ شيء على عكس النموذج الذي نعرفه في منطقتنا للزعيم الجبار الماتشو ــ مان الذي لا يوفّر كلمة من قاموس الكرامة والمواجهة والشجاعة والبطولة في خطاباته الموجهة عادة ضد شعبه، بينما يكون أجبن الجبناء بحسب ما علّمتنا مشاهد صدّام حسين ومعمّر القذافي مثلاً. فهم أشرف غني سريعاً أنّ كلّ شيء انهار، فهرب، وانتهت القصة. كتب في بيان ما بعد هروبه: "انتهى، بأسف شديد وعميق، الفصل الخاص بي بمأساة كما حدث لأسلافي" واعتذر من شعبه لأنّه لم يستطع تحقيق السلام والازدهار. أكثر من ذلك، اعتذر غني في البيان إياه عما قام به (هروبه)، وقال إنّه لم يكن أمامه خيار بعدما أخطره فريقه الأمني أنّ استمرار وجوده في المدينة سيؤدّي إلى اندلاع قتال من شارع إلى شارع، على غرار ما شهدته كابول خلال الحرب الأهلية في تسعينيات القرن الماضي، أو على غرار الحرب الأهلية في سورية، لأنّ غني لم يرغب أن يكون "بشار الأسد الثاني" مثلما قال في مقابلة "بي بي سي" لأنّ "التمسّك بالسلطة (كان) معناه استمرار الحرب في شوارع كابول" على حد تعبيره. وبين أشرف غني وبشار الأسد قصة قديمة تعود إلى عام 2012، قبل أكثر من عامين على وصول غني إلى الرئاسة في أفغانستان. في ذلك العام، كتب غني ورقة بحثية لمرحلة انتقالية في سورية من دون بشار الأسد، تقودها شخصياتٌ من المعارضة وأخرى من الموالين للأسد، وذلك بهدف طمأنة هذه الفئة من السوريين. أمر ربما استحال تطبيقه في الحالة الأفغانية.
قد تكون حكاية غني عن هربه من أجل حقن الدماء وتفادي الحرب داخل كابول، من عدّة الكذب المعتادة التي يشهرها المسؤولون لتبرير فشلهم. لكن في الجهة المقابلة، لدينا نموذج حيّ عن بديل الهرب. بشار الأسد لم يهرب، والنتيجة ماثلة أمام العالم: إبادة جماعية في مسلخ لا عطلة رسمية لعمله ولا دوام محدداً لموظفيه.
بين الهرب هناك والصمود هنا، مئات آلاف القتلى. أمام دموية المشهد، المجد للجُبن عندما يقلل من عدد القتلى، واللعنة على تلك الشجاعة التي تنطق مجازر.