برج بابل وعالم المفاهيم وسؤال النهوض
ربما يثير المفهوم الأساسي الذي يتعلق بسؤال "النهوض" إشكالاً قد يستعصي على النظر الدقيق، وما يرتبط بقضاياه الكبرى، التي غالباً زادت الحيرة في التعاطي معها من الوسط الثقافي والحضاري، وهذا القول أو الاستنتاج، الذي برز مع تعدّد التأليفات والكتابات المتنوعة، لا يعبّر، في أي حال، عن مبالغة في بيان مدى صعوبة الخوض في هذا المجال، ولكنّه ينبّه إلى ضرورة الاهتمام بالمتطلبات المنهجية للاشتباك مع قضايا مثل هذه.
هذا المفهوم الذي يواجه أزمةً حقيقيةً، ما بين غموض يُحيط به منذ طرحه، والخلط بينه وبين مفاهيم أخرى متعدّدة، من دون تدقيق أو تبسيط في طريقة تناوله، يفرض تحديد ماهية النهوض قبل الحديث عنه مسلّمةً أو أولى الأولويات، إذ إنّ تحديد ماهيتـه يترك انعكاسات بالضرورة في الرؤية المنهجية أو الإجابة عن أسئلة أخرى تتعلق بهذه العملية، مثل: ما هو النهوض؟ لماذا النهوض؟ (السبب والمقصد)، وكيف يكون النهوض؟ (الأسلوب والمنهج، الطرائق والأدوات، الآليات والإجراءات، والمآلات والمستقبليات). وتبدو أهمّية ذلك، من خلال اعتبار الأسباب السابقة، في ضرورة تنقية مفهوم النهوض في سياق الخبرة في امتداداتها الزمنية والحركية، خاصة أنّ الباحث سيجابه ببعض الدراسات التي ترادف بين مفهوم النهوض وبين مفاهيم وكلمات أخرى، ولأنّها أيضاً، مُحمّلة بالأحكام المسبقة أو التحيّزات الكامنة فقد ترتبط باتجاهات أيديولوجية ومذهبية بعينها.
هناك كمّ هائل من المفاهيم التي تستعصي على الحصر في تعلّقها بفكرة النهوض، لأنّ الحديث عن النهوض لا يتوقف عند كلمة مفردة، بل يعبّر عن منظومة متكاملة (أسرة كلمات) أو عائلة مفاهيم أو شجرة من المفردات أو شبكة من التصورات والمدركات، سواء ارتبطت بالمفهوم موضّحة أو مبينة، داعمة أو متكاملة؛ أو خُلِطَتْ به من دون تمييز فالتبست معه، وذلك مثل: الأصالة، الجديد، القديم، المعاصرة، العصرية، العلمانية، الحداثة، التحديث، التنمية السياسية، الثقافة السياسية، المحافظة، التقليدية، التقدم، الرجعية، التغريب، التطور، الديمقراطية، القومية، الاغتراب، التقدّم العلمي والتقني، التصنيع، الاشتراكية، الماركسية، الثورة، المؤسّسية، المجتمع المدني، البدعة، الإحداث، التقليد، الاجتهاد، الغزو الفكري والثقافي، الاتباع، السلف والسلفية، اليقظة، الصحوة، النهضة، البعث، الانبعاث، الإحياء، التجديد، المدّ، الإصلاح، المستقبلية، اليسار واليمين، السياسة الشرعية، التغير، التغيير والتحول والانتقال، التمدن، الترقي، المجد والتمجّد، المصالح، حركة التاريخ ومساراته، المرجعية والهوية، التحرير والحرية، التجدّد الحضاري، المثاقفة والتثاقف الحضاري، العمران، التمدّن... إلخ. هذه المفاهيم قد تعبّر عن ناحية من نواحي النهوض أو تشكّل إحدى أدواته، كما أنّ جانباً منها قد يختلط بمفهوم النهضة، خاصة تلك المفاهيم النابعة من الحضارة الغربية.
لا ينتج كلّ تعدّد آثاراً إيجابية، ولا ينتج كلّ تنوّع إثراءً مؤكداً، فالتعدّد والتنوع قد يصيران نقمة لا نعمة، خاصة إذا كان الاستخدام لهما مريضاً
في هذه المفاهيم المتعدّدة شديدة التنوّع، نحن أمام كلمات ومفردات يمثّل بعضها دلالة هامشية وأخرى تشكّل دلالة مركزية؛ بعضها يمثّل الظلال وأخرى تسهم في تحديد الأصل، وبعضها يرتبط بعالم المفهوم ويدعمه، وبعضها الآخر يختلط به وقد ينقضه من بعض جهاته، وكثير منها ينتمي إلى سياقات حضارية مغايرة، وأخرى تشير إلى سياقات متعيّنة محدودة ومحددة، وتلك كلّها أمور قد نسترشد بها عند تعريف النهوض والنهضة في مرحلة لاحقة، ونقدّم فيها تعريفاً محدّداً؛ تعريف النهوض بين البناء وإعادة البناء، ومسألة أخرى قد تتعلق بمنهج النظر إلى حال التعدّد المفاهيمي واختلاف الألفاظ وتنوع الدلالات، وهو أمر يدخل في النظر إلى التعدّد حالةً حضاريةً وثقافيةً تترك آثارها لزاماً على عالم المفاهيم، لا ينتج كلّ تعدّد آثاراً إيجابية، ولا ينتج كلّ تنوع إثراءً مؤكداً، فالتعدّد والتنوع قد يصيران نقمة لا نعمة، خاصة إذا كان الاستخدام لهما مريضاً، وكلاهما داخل في مسألة الاختلاف وما يتبعه من حوار أو خلاف، حتى إن بعضهم قد ميّز بين اختلاف التنوع واختلاف التضاد.
نعود بعد رصد خريطة التعدد المفاهيمي المتعلّق بالنهوض؛ وأسطورة برج بابل التي اتخذها المهتمون بعلوم اللغة والألسنية، واعتمدوها ضمن المداخل اللغوية، خاصة تلك التي ترتبط بالكلمات والألفاظ والمفردات وتعدّدها، الذي قد يصل إلى حدّ الاختلاط والفوضى، في قديم الزمان، عندما كان البشر كلّهم مجموعةً صغيرةً، كانوا جميعاً يتحدّثون بوسيلة واحدة ولغة مشتركة. ولمّا وصلوا إلى بلاد الرافدين، وقرّروا أن يستوطنوا فيها، رأوا أن يبنوا برجاً عالياً يطاول السماء، تخليداً للإنسان وعظمته. هذان التحدّي والغرور اللذان أصابا الإنسان أثارا غضب الآلهة عكس رغبة البشر، فدمّر البرج، وتشتّت البشر آنذاك، وصاروا مجموعات مختلفة وكثيرة، كلّ مجموعة تتكلّم لغة مختلفة. وفي رواية أخرى، كان برج بابل في إحدى مدن ما بين النهرين، التي حاول أهلها قبل نوح عليه السلام، كما ورد في الكتاب المقدّس، أن يشيّدوا برجاً يصعد إلى عنان السماء، فعوقبوا ببلبلة الألسن، ولم يفهم بعضهم بعضاً، مع أنّهم كانوا يتكلمون لغة واحدة، يعلّلون بالقصة تعدّد اللغات واختلاف الأفهام. هذه الحكاية باختصار في مكنونها حكمة وموعظة، وهي واحدة من أكثر الأساطير تداولاً، توضّح أنّ البشر نظروا إلى اللغة، منذ أقدم العصور، بوصفها مشتركاً له تأثيٌر كبيٌر في حياتهم، وأنّ حالة الانحراف الدلالي ربما تشكّل عقاباً لغوياً في مسألة تلقّي اللغة وعالم المفاهيم، فهذه الأسطورة لا تشير إلى تعدّد اللغات فقط، وفي رواية أخرى قد تشير إلى تعدّد التصوّرات والأفهام في عالم المفاهيم، حتى لو كانت اللغة مشتركة، وهو عقاب، لو تعلمون، عظيم.
نظر البشر إلى اللغة، منذ أقدم العصور، بوصفها مشتركاً له تأثيٌر كبيٌر في حياتهم
في هذا المقام أيضاً، يمكننا أن نتذكر عالم المفاهيم الذي اتخذه كاتب هذه السطور مشروعاً ضمن اهتماماته الثقافية والفكرية والحضارية، وتواصل مع أستاذ مبرز في الغرب؛ فرد ريجز، واختصاصه في علم الإدارة والعلوم السياسية والاجتماع السياسي، واهتمّ كثيراً بعالم المفاهيم، وعمل بنشاط في لجنة خاصة بتحليل المفاهيم والمصطلحات التابعة للمجلس الدولي لعلوم الاجتماع، وأدار ووجه مشروع "COCTA"، الذي طوّره إلى مشروع استدرك على الأول، وتغيير اسمه إلى "INTER-COCTA" يهدف إلى وضع مجموعات من المعاجم الخاصة بالعلوم الاجتماعية والإنسانية، وقد أشار إلى أنّ هذا المشروع يهدف إلى توحيد المفاهيم والمصطلحات "ISO"، وشرع هذا المشروع في أمر خطير يستحدث المفاهيم والمصطلحات، وقد وجّه كاتب هذه السطور إلى المشروع نقداً، بل نقضاً له في الأصول والجذور، وأرسله إلى فرد ريجز، وردّ عليه، مطولاً، أحد تلامذته ينحو هذا الاتجاه في نقد المشروع في صيغته الأولى والمطوّرة. كتب ريجز مقالاً مهماً بعنوان "برج بابل وترابط العلوم: أعراض بابل المتزامنة"، جاعلاً من مؤتمر في علوم الاجتماع الذي توفّر على تقصّي مفاهيم ثلاثة (التنمية والاغتراب والأمة)، وقد تميّزت ملاحظاته في رصد التوجّهات حول المؤتمر بالعمق والدقّة.
كان أفضل ما في هذا المقال التنويه الذي تضمّنه، وهو ما يرتبط بموضوعنا مباشرة، ألا وهو سؤال النهوض. يقول ريجز: "وجدنا في مؤتمرنا مترادفات متنوّعة، ولكنّها غير ملائمة، كلمة أساسية، معانيها كثيرة، ومع هذا التكاثر أصبح كلّ معنى أكثر غموضاً، وللتغلب على هذا الغموض يمكن صياغة كلمات جديدة، وغالباً ما يُستبدل بالمعنى مرادف موجود بالفعل". هذا التشخيص، وربما المقترح، بوصفه العلاج، قد يكون أمراً مناسباً في هذا المقام، سواء لهذه الأعراض المتشابكة لـ "برج بابل" في عصرنا الحاضر، وكذلك ما يعود إلى التداول في اللغة يحمل ألفاظاً مختلفة ومتعددة قد تتحكم فيها الاعتقادات الأيديولوجية المسبقة. وهي أمور قد يُشار إليها كما عبّر عنها ريجز "Syndieme - babel" (أعراض البلبلة اللغوية)، والتي استندت إلى تلك الأسطورة المتعلقة ببرج بابل. مفهوما النهضة والنهوض ليسا بعيدين عن تلك الأعراض كلّها، التي يجب التعامل معها ببصيرة ورويّة وحكمة.