بديهيّاتٌ أسقطتها حربُ غزّة
يوماً بعد يوم، يتأكّد أنّ ما قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023) ليس كما بعده. إنّنا أمام حدثٍ مِفصَلِي بكلّ المقاييس، حدثٍ أسقط ما كان يُعتقد أنّها بديهيّات راسخة. فمن كان يظنّ، قبل أشهر، أن تقمع عناصر الشرطة في بلد مثل الولايات المتحدة احتجاجات الطلبة، في عدد من جامعاتها، لأنّهم طالبوا فقط، بشكل سلمي، بوضع حدٍّ لحرب الإبادة في قطاع غزّة، ووقف المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل، وتعليق مختلف أشكال التعاون الأكاديمي والعلمي مع دولة الاحتلال. لقد استعارت الحكومة الأميركية الوصفة، التي لطالما زايدت بها على دول وحكومات في تقرير خارجيتها البائس بشأن حقوق الإنسان التي تُصدره في مُستهلّ كلّ عام.
يطرح تعاطي الشرطة الأميركية العنيف مع الحراك الطلابي أسئلة من قبيل: كيف نجح الإعلام الغربي في التغطية على الاستبداد الكامن في البنية السياسية الغربية؟ ما هي حدود الديمقراطية التمثيلية في الغرب، حين تصطدم بتحدّيات أخلاقية كبرى، كالحرب في غزّة؟ ما جدوى الانتخابات وصناديق الاقتراع حين تُفرّغها جماعات الضغط والمصالح من مدلولاتها؟ هل يضخّ قمعُ الشرطة الأميركية طلبةَ الجامعات دماءً جديدةً في أنظمة الاستبداد في بلدان الجنوب، التي يبدو أنّها ستتحرّر بالكامل من ضغوط الغرب بشأن الحقوق والحريات؟... تعكس هذه الأسئلةُ، وغيرُها، ارتجاجاً فكرياً وثقافياً عابراً للحدود؛ لقد سقطت سلطة الغرب الفكرية والحضارية التي حازها بتوسُّلِه (الكاذب) بالديمقراطية وحقوق الإنسان. ولعلّ المثير للسخرية أنّ الحقوق والحريات السياسية التي تُداس اليوم في جامعات أميركا، هي ذاتها التي شكّلت عصب المرافعة الأيديولوجية الأميركية في مواجهة الاتحاد السوفييتي البائد خلال الحرب الباردة.
لا يفسّر العنفُ المُفرِطُ الذي جوبِه به الحراك الطلابي إلا بمخاوف الدولة العميقة، في الولايات المتّحدة، من اتساع رقعة الاحتجاجات وتمدُّدها نحو فئات وشرائح اجتماعية أخرى، بما لا ينزع الغطاء الأخلاقي والحقوقي فقط، عن السياسات الأميركية في الشرق الأوسط والعالم، بل يهدّد أيضاً هيمنةَ اللوبي الصهيوني الأميركي على مواقع صناعة القرار وقنواته. وهو ما يبدو سيناريو مرعباً لدولة الاحتلال، التي تَعتَبِرُ الدعم الأميركي غير المشروط صمّام أمان لسياساتها العنصرية ضدّ الفلسطينيين، لا سيّما أنّ تهمة ''معاداة السامية'' بدأت تفقد جاذبيتها الإعلامية والسياسية، بعد أن وقف الرأي العام الغربي على حقيقة توحّش آلة القتل الإسرائيلية، التي أبادت عشرات الآلاف من المدنيين الأبرياء في غزّة، أمام مرأى ومسمع حكومات الغرب ونُخَبِه.
أسقط قمع الشرطة الأميركية احتجاجات الطلبة بديهيةَ الديمقراطية الغربية، وزيف مُرتكزاتها القائمة على احترام الحقوق والحرّيات، وفي مقدّمتها حرّية الرأي والتعبير والتظاهر السلمي، خاصة داخل الجامعات، التي يُفترض أنّها فضاءات للتعلم والابتكار وتنمية الحسّ النقدي في مواجهة السلطة. ولا ريب أنّ ذلك لا يربك إدارة الرئيس جو بايدن فقط، بل أيضاً البنية المُركّبة للسلطة في الولايات المتحدة، التي تمثّل سياساتُ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان عناوين بارزة في تمدّدها الجيوسياسي في أكثر من منطقة في العالم. ورغم أنّ هذه البنية تتحكّم في وسائل الإعلام والدعاية والاقتصاد ورأس المال، وتتمتع بشبكة علاقات دولية مُتشعّبة، إلا أنّ الحراك الطلابي الحالي يُنْبِئُ أنّ الولايات المتّحدة، والغرب عموماً، إزاء تحوّلات لا ينبغي الاستهانة بها في صعيد أنماط الوعي والتفكير والسلوك.
يُضاعف انتقال عدوى الحراك الطلابي الأميركي إلى جامعات فرنسية المخاوف، في الغرب، من أن يتحوّل هذا الحراك المُتنامي إلى كرة ثلج تكبر شيئاً فشيئاً، بشكل يعيد إلى الأذهان ثورة الطلبة في فرنسا (مايو/ أيار 1968)، التي هزّت الدولة والمجتمع، وتركت آثاراً ثقافيةً واجتماعيةً عميقةً، وتزامنتْ مع مظاهرات طلابية أخرى شهدتها عدّة جامعات أميركية احتجاجاً على حرب فيتنام، آنذاك.
أسقطت حرب غزّة بديهيّاتٍ كثيرة قد لا يتّسع المقام هنا لذكرها والتفصيل فيها، لكنّ المُؤكّد أنّ أبرز هذه البديهيّات، تلك التي تتعلق بالديمقراطيات الغربية، التي كشفت الأعداد المهولة من الشهداء والجرحى والمشردين في غزّة زيفَ ما تنهض عليه من مبادئ وقيم.