بدرية خلفان… سيّدة البدايات
يمكن وصف البحرينية بدرية خلفان بـ"سيّدة البدايات". إنها أول صوت إذاعي نسائي يقول: "هنا البحرين"، وهي أول امرأة تتقدّم صفوف المتظاهرين ضد "الحماية" البريطانية للبحرين في الخمسينيات، وهي أول معتقلة رأي في تاريخ وطنها. خلفان المولودة في فريج الفاضل بالعاصمة المنامة، ودّعت دنيانا، قبل أيام، في مسقط بسلطنة عُمان، موطن زوجها، حيث انتقلت للعيش هناك مع عائلتها.
التحقت بأول إذاعة في البحرين بمنطقة الحورة في المنامة في نوفمبر/ تشرين الثاني 1941، وهي إذاعة أرادها الإنكليز ناقلةً لأخبار الحرب العالمية الثانية المندلعة يومها، ولكن فريق الإذاعة نجح في أن يجعل منها، أيضاً، إذاعة تبثّ الأغاني الشعبية والبرامج الثقافية والتربوية والصحية، إضافة إلى برامج تربوية حثت على أهمية تعليم المرأة.
في شهادات شفوية، مباشرة وهاتفية، أدلت بها خلفان للباحثتين سبيكة النجار وفوزية مطر، مؤلفتي كتاب "المرأة البحرينية في القرن العشرين"، قالت: "انضمامي للإذاعة في ذلك الوقت المبكّر كان مقبولاً وسهلاً، فقد نشأت في محيط عائلي مشجع للمرأة على الانفتاح والحراك، حيث كنت، أنا وأختي شهلا، نتمتّع بتشجيع وثقة الوالد من جهة، وتحفيز شقيقنا خليفة من جهة أخرى".
كان والد الشقيقتين رجلاً ميسوراً متفتح الذهن، أما الشقيق خليفة، فكان ناشطاً سياسياً يسارياً من أوائل من انخرطوا في صفوف جبهة التحرير الوطني، وساهم بدورٍ مهمٍّ في تشكيل وعي شقيقتيه. وفي لقائها مع الباحثة النجّار، قالت بدرية خلفان: "قرأنا لبلزاك وفيكتور هيجو وشتاينبك وتولستوي وغيرهم من كبار الأدباء العالميين. كنتُ أنا وأختي شهلا نُلخّص الكتاب الذي نقرأه، وصاحبة أحسن تلخيص تفوز بجائزةٍ من أخي".
لم يكن هذا الوعي الوطني والثقافي المبكّر معزولاً عن حال النهوض الوطني العارم التي شهدتها البحرين يومذاك. سرعان ما تجد بدرية خلفان وشقيقتها في المسيرات الضخمة المعادية للإنكليز التي اجتاحت شوارع البحرين يومها ساحة للتعبير عن وعيهما وحسّهما الوطني والقومي، فكانتا في مقدّمة الصفوف في تلك المسيرات، جنباً إلى جنب مع الرجال، في أول تجلٍّ لمشاركة المرأة البحرينية المباشرة في العمل الوطني والحراك السياسي.
لم تكن بدرية، وكذلك شقيقتها شهلا، أول من شاركن من النساء في الحراك السياسي يومذاك فحسب، وإنما كانتا أيضاً من أوائل النساء اللاتي نشرن مقالاتهن في الصحافة المحلية الناشطة يومذاك، وبشكل خاص في صحيفتي "القافلة" و"الوطن". وتميّزت هذه المقالات بمحتوى جديد وغير معتاد في صحافة تلك المرحلة، من حيث الانتصار الواضح لقضية المرأة، واعتماد منهج التحليل الطبقي في تفسير التراتبية المجتمعية على أكثر من صعيد. وخاضتا في ذلك سجالاتٍ مع أصحاب الآراء المحافظة، لكنهما، في المقابل، وجدتا أكبر التشجيع من القائمين على صحف تلك المرحلة، مثل المرحومين محمود المردي وعلي سيّار، فضلاً عن تشجيع شخصيّات أخرى ودعمها، مثل علي حميدان، وبعض رموز هيئة الاتحاد الوطني التي قادت الهبّة الشعبية يومها، محمولة على المدّ التحرّري الوطني والقومي في العالم العربي والعالم، ومن بينهم عبد العزيز الشملان الذي خصًته بدرية بالذكر في لقائها مع سبيكة النجّار.
قبل أن تنقضّ السلطات البريطانية على حركة الهيئة، غداة الاحتجاجات الواسعة التي شهدتها البلاد تنديداً بالعدوان الثلاثي على مصر عام 1956، ألقت بدرية خلفان خطاباً حماسياً في الجماهير المحتشدة الغاضبة من العدوان، والمتعاطفة مع مصر وجمال عبد الناصر. وتُظهرها صورة نادرة وهي تمسك، في تلك المسيرة، بصورة لعبد الناصر. أثار ذلك حنق المستشار البريطاني في البحرين، يومذاك، تشارلز بلجريف، فأمر باعتقالها، لتصبح بذلك، أيضاً، أول امرأة في تاريخ البحرين الحديث تُعتقل لأسباب سياسية. وفي يومياته كتب بلجريف: "قرّرتُ اعتقال شابة، هي بدرية خلفان التي أوشكت أن تصبح قائدة سياسية".
أثار اعتقالها، في سابقة غير مألوفة لدى الناس، صدمةً في المجتمع، خصوصاً وأنها كانت فتاة صغيرة في مقتبل عمرها، وبعد أقلّ من شهر من الاعتقال أمرتها السلطات البريطانية بمغادرة البحرين، فذهبت أولاً إلى مدينة الخبر في السعودية حيث يقيم أخوالُها، قبل أن تسافر إلى العراق ومنه إلى مصر لمواصلة دراستها. لم ينته نشاط خلفان وهي في القاهرة. أصبحت صوتاً إذاعياً في "صوت العرب"، موصلة قضية البحرين الوطنية، ومدافعة عن قادة هيئة الاتحاد الوطني الذين نفاهم الإنكليز، بعد محاكماتٍ صورية، إلى جزيرة سانت هيلانة في المحيط الأطلسي.
"سيّدة البدايات"، ابنة الزمن الذي كان واعداً، وداعاً.