بايدن ينشّط الاستيطان
جاء نابهاً من المكتب الوطني للدفاع عن الأرض ومقاومة الاستيطان، التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، في إشهارٍ له أول من أمس، تذكيرُه (إن نفعت الذكرى، بداهةً)، بأنّه جرى، في أثناء زيارتين لجو بايدن، إبّان كان نائباً للرئيس أوباما، في العامين 2010 و2016، دولة الاحتلال الإسرائيلي، إعلانٌ عن عطاءاتٍ لبناء آلاف الوحدات الاستيطانية، مع تركيز البناء في مدينة القدس. أما وأنّ بايدن زار الأسبوع الماضي إسرائيل، وصفتُه رئيس الولايات المتحدة، فقد جرى إرجاء الإعلان عن المصادقة على مخطّطٍ استيطانيٍّ جديد، وكذا الحديث عن إقامة ألفي وحدة استيطانية في القدس المحتلة، إلى ما بعد مغادرته. وبحسب حركة السلام الآن، كان إرجاء لجنة مختصّة مناقشاتها لإقرار المخطّطات الاستيطانية هذه من يوم 18 يوليو/ تموز الحالي، إلى 25 منه، بقرارٍ من رئيس الحكومة يئير لبيد، تجنّباً "لحرجٍ" ربما كان يستشعرُه الضيف الكبير الزائر. ويجيز هذا التلازم بين قدوم بايدن (تحديداً؟)، نائب رئيس ثم رئيساً، إلى إسرائيل، والنفير الاستيطاني هذا، القول إن الرجل، بكيفيةٍ أو بأخرى، يشجّع مضي دولة الاحتلال، ترأس حكومتَها شخصٌ اسمه بنيامين نتنياهو أو مؤقتاً شخصٌ اسمُه يئير لبيد، في الاستيطان، بعيداً عن خرافة الحرج السمجة تلك. ولا يأتي واحدُنا مجازفةً في قولٍ كهذا، فالرجل لم تفلت منه، ولو مرّة، عبارةٌ انتقد فيها النشاط الاستيطاني الذي لا يوقِفه كابح، ولا جهر بطلبٍ من دولة الاحتلال التي يُشاركها صهيونيّتها "تجميداً" لخطةٍ استيطانيةٍ، على ما كان يحدُث أن تفعل إداراتٌ أميركيةٌ سابقة، منها إدارة أوباما التي كان بايدن ركناً فيها، والتي أشهرت، أول شهورها، موقفاً حسناً في المسألة، ثم هبطت عنه، على ما في أرشيفٍ ليس منسياً بعد.
وعندما يتفق الجانبان، الفلسطيني والأميركي، على عدم إصدار بيانٍ مشترك، بعد دردشة النصف ساعة (أو أقل؟) بين الرئيسين، بايدن ومحمود عبّاس، في بيت لحم، فذلك ليس فقط لاتساع الشقّة في مواقفهما تجاه غير مسألة، وإنما أيضاً لأن موضوعتي الاستيطان والقدس ليس ممكناً، في أي حالٍ، النأي عنهما في بيانٍ كان في الوسع أن يصدُر، ولو متضمّناً، أضعف الإيمان، بعض العبارات التي تخلو من التزاماتٍ سياسية (وأخلاقية)، وتكتفي بمواقف لفظيةٍ عابرة، غير أن صهاينةً نافذين في إدارة بايدن، الترامبية من غير ترامب في المسألة الفلسطينية تعييناً، آثروا الاعتصام عن أضعف الإيمان هذا، في مقابل الاستفاضة إياها في إشهار فائضٍ من الوعود والالتزامات لدولة الاحتلال في غير شأنٍ وشأن، على ما تبدّى في "إعلان القدس" الذي أظهرت تسميتُه هذه مزيداً من الانحياز الصارخ لاعتبار المدينة المقدّسة عاصمة موحّدة لدولة الاحتلال.
والقدس، على ما يبقى شديد الوجوب التذكير به، هي قضية القضايا في الطوْر الراهن من المشروع الصهيوني، على ما يؤكّده النشاط الاستيطاني فيها وحواليها، مع مخطّطات الطرد والتهجير التي تستهدف أهلها وساكنيها الفلسطينيين العرب، تراها في مشاريع الاستيطان المعلَن عنها بعد وداع بايدن، ومن ذلك إقامة أضخم مجمّع تهويدي سياحي وتجاري تحت عنوان "مجمّع جبل صهيون" جنوب غرب المسجد الأقصى والبلدة القديمة، وفوق أراضي وادي الربابة، ويضم بناء 350 غرفةٍ سياحيةٍ وفندقية، وأربع قاعات للاجتماعات والمناسبات اليهودية، بالإضافة إلى برك للسباحة وصالات للألعاب، ومواقف للسيارات، و380 محلاً تجارياً، وكذلك إقامة متحفٍ كبيرٍ لعرض المقتنيات العسكرية الإسرائيلية. وذلك كله عدا عن ثلاثة مخطّطات استيطانية أخرى في الضفة الغربية، تقوم على نهب آلاف الدونمات من الفلسطينيين، فضلاً عن إنشاء 28 بؤرة استيطانية جديدة.
لمّا أذاعوا أن الاستيطان والقدس كانا موضوعيْن مؤجلّين في المفاوضات السرّية التي أدّت إلى اتفاق إعلان المبادئ (أوسلو)، الموقّع في 1993، شاع الظن أن خوض مفاوضات شاقّة معلنة في شأنهما سيمكّن من وقف التمدّد الاستيطاني، ومن تأكيد سيادة فلسطينية على القدس الشرقية، غير أن جولاتٍ من المفاوضات خيضت (أبرزها في كامب ديفيد) لم تؤكّد هذه، ولا مكّنت من ذاك. وعلى بؤسٍ لوحظ في غير مرّة على أدائه، لم يتنازل المفاوض الفلسطيني عن حقوقٍ معلومة ومُشهرة، غير أن الحصيلة المعاينة قدامنا .. وتيرة في الاستيطان وتهويد في القدس ينشطان بشهيةٍ إسرائيليةٍ لا يستبطئها شيء، ولا يراها بايدن تستحقّ الاكتراث.