بالخبز وحده نحيا

22 أكتوبر 2022
+ الخط -

يُحسَب للحكومة الأردنية شاعريتها، وهي تقتبس عبارة محمود درويش، مخاطبًا أصدقاءه: "من تبقّى منكم يكفي لأحيا سنة"، فتوظفها في قرارها أخيرا الإبقاء على سعر الخبز سنة أخرى، حتى نهاية عام 2023.

والحال أن الحكومة الأردنية خير من يفهم العلاقة الجدلية بين الخبز والحياة، خلافًا لزميلتها المصرية، التي لم تقرّ المسمّى الشعبي للخبز في بلادها، على الرغم من أن المصريين كانوا أول من أطلق على الخبز مسمّى "العيش"، مختزلين حياتهم كلها بهذا الرغيف المتدحرج بسرعةٍ تفوق قدرتهم على الركض، بعد أن أدركوا أنهم الخاسرون، دومًا، في هذا الماراثون الطويل.

أما الأردنيون، فيستحقّون أسمى آيات التهنئة والتبريك لقاء ما حظوا به من حكوماتٍ رشيدةٍ تمنحهم فرصة العيش سنة إضافية، كلّما أوشكت ذخيرة الحياة على النفاد من عروقهم الناشفة. وعلى الأغلب، إنهم يحتفلون الآن على طريقتهم بهذه السنة الإضافية التي جاءتهم على غير موعد، بإطفاء شمعة تتوسّط رغيفًا على مائدة بصحون فارغة كجيوبهم وأيامهم.

صحيحٌ أن ثمة توظيفات سياسية للرغيف، على غرار رواية فلاديمير دودنيتسيف "ليس بالخبز وحده"، التي دان فيها بيروقراطية السلطات السوفييتية، التي عطّلت التقدّم التكنولوجي في البلاد، غير أن الحكومة الأردنية بريئة من هذا التوظيف، فلم تضف إلى العبارة السابقة ما أضافه آخرون، عندما جعلوها: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان"، خصوصًا فئة الأحرار الذين حاولوا التخلص من إسار هذه المعادلة القاسية التي جعلت الرغيف أولوية تسبق الحرية والحقوق، بدليل أنها، أي الحكومة، تستطيع سوق أدلةٍ وبراهين عدة تنافح فيها عن موقفها، وفي مقدّمتها أنها كانت سبّاقة بإعداد منظومة قوانين تصبّ في خانة الحريات، على غرار قانوني الأحزاب والانتخاب اللذيْن أقرّهما البرلمان أخيرًا، بمعزل عن قرار تأجيل رفع أسعار الخبز، فمن أراد "الحرية أولًا" له ذلك، ومن أراد "الخبز أولًا" ففي وسعه العيش سنة أخرى بفضل هذا القرار.

أما الربط بين الخبز والحرية فمن بنات خيال المعارضين الذين يترصّدون الأخطاء ويهوّلون السفاسف، بدليل أن الحكومة على وشك أن ترفع معادلة نقيضة عنوانها "ليس بالحرية وحدها يحيا الإنسان"، ردًّا على هذا الافتئات البغيض، سيما وأن لدى الأردنيين فائضًا من الحرية قابلًا للتصدير، سيما عند بدء نفاذ القانونيْن المذكوريْن آنفًا، إذ سيكون في وسعهم تشكيل الأحزاب والانخراط فيها بلا تضييق أو ملاحقات أمنية، كما كان يحدث سابقًا، ومن دون أن يمنعهم ذلك من التلذّذ بقضم الخبز أيضًا.

وأمّا التهم التي تلقى جزافًا على رأس الحكومة، فهي تهم ظالمة، على غرار الارتفاعات المهولة التي شهدتها أسعار السلع الغذائية، والوقود، والنقل، والضرائب، فضلًا عن تفاقم المديونية العامة إلى أزيد من مليار دينار في سبعة أشهر خلال العام الحالي، إذ يكفيها فخرًا أنها لم تقترب من سعر الخبز، وأبقت عليه متاحًا للغلابى الذين يشكلون ثلاثة أرباع الشعب بعد اندثار الطبقة المتوسطة، وبما يذكّر بمشهد من إحدى مسرحيات الكوميديا العربية، عندما اشترت زوجة سمير غانم دجاجة بسعر زهيد، ليكتشف زوجها، في ما بعد، أن زوجته دفعت مبلغًا باهظًا لقاء قفص الدجاجة.

وعلى الغرار نفسه، يدفع الأردنيون ثمنًا زهيدًا لقاء الرغيف، غير أنهم يستدينون لقاء "القفص" الذي يؤطّر حياتهم بمجملها، بدءًا من الشقة، وليس انتهاء بالقبر، أو حتى لقاء الحريات التي يسمعون بها أزيد مما يلمسونها، بدليل عدد المعارضين الذين يزجّون في السجون لقاء موقف أو تدوينة أو مقال، بينما تظن الحكومة أنها تلبي حاجة ماسّة لـ"العيش" في نفوس رعيّتها، ولو عبر سنة إضافية أخرى، مع التذكير بأن هذه السنة ليست منحة للمواطن، بل دينًا واجب السداد بوجوه متعدّدة، منها غضّ الطرف، مثلًا، عن تجاوزات الفساد، أو اتفاقيات الغاز مع العدو، أو حتى القبول بالحريات المنقوصة، وعلى قاعدة رسمية تقول "بالخبز وحده يحيا الأردنيّ".

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.