انقلاب قيس سعيّد في غياب المحكمة الدستورية
عندما حقق الرئيس التونسي قيس سعيّد زلزالاً انتخابياً بفوزه الساحق في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية التونسية في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، ضد منافسه نبيل القروي، تشكلت بارقة أمل لتونسيين عديدين شعروا بالانتصار على الأحزاب السياسية المسيطرة من جهة، وعلى سيطرة الأموال المتمثلة بالقروي من جهة ثانية. إلا أن هذه الفرحة لم تدم طويلا، حيث اعترضت عقبات سياسية عديدة ولاية الرئيس الجديد، لم يستطع تذليلها بل زاد من حجمها وأثرها بهفواتٍ وانتكاساتٍ وقراراتٍ لم تتسم بالحكمة السياسية، فقد كانت البداية في اليوم الذي تقدمت مجموعة من الكتل البرلمانية بلائحة لسحب الثقة من حكومة إلياس الفخفاخ، حيث أعلن سعيّد أن الأخير تقدم باستقالته إليه، مستبقاً خطوةَ سحب الثقة عن طريق البرلمان بإعلانه قبول الاستقالة، ما أعاد إليه، دستورياً، أولوية تكليف رئيس جديد لتشكيل الحكومة، حارماً الكتلة البرلمانية الأكبر من ذلك.
من ثم جاء تكليف هشام المشيشي، لتستمر حكومته مع المشكلات نفسها المرتبطة بالتفسير والتأويل الدستوري لطريقة التكليف وحدود الصلاحيات ومرجعية النظر بين البرلمان ورئاسة الدولة. مشكلات دستورية يؤولها كل ضلع من أضلاع مثلث السلطات، بما يتناسب مع مصلحته وتوجهه، من دون إمكانية حسم التأويل لمصلحة أحد، بغياب الناظم لهذه الخلافات (المحكمة الدستورية العليا). وحصل تكليف المشيشي من دون تشاور مع الأحزاب السياسية، ما صدّر المشيشي رجل الرئيس وحكومته حكومة الرئيس. إلا أنه وفقاً للدستور، لا يمكن لأي حكومة ممارسة مهامها من دون نيل ثقة البرلمان، ما دفع المشيشي إلى التنسيق مع الأغلبية البرلمانية لتمرير حكومته، مقدّماً تنازلات لصالح حلفائه الجدد في البرلمان، تتعلق بإعادة هيكلة الحكومة. ووفّر هذا التحالف الجديد له مجالاً للمناورة السياسية. وفي المقابل، سرع في توتير علاقته مع الرئيس سعيّد والأحزاب التي تقف إلى جانب الرئيس، في غياب التوافق بين الأخير وأغلبية النواب. وبدأ تعطيل عمل حكومة المشيشي برفض سعيّد مثول أعضائها أمامه لتأدية اليمين الدستورية، حارماً إياها من إجراء شكلي غير جوهري كما هو الحال بمنح الثقة البرلمانية، رفضٌ رأى به نوابٌ وفقهاء قانون كثيرون أنه ليس من حق الرئيس دستورياً، إلا أن الرئيس سعيّد برّر موقفه أن الدستور يمنحه حق الامتناع عن قبول أداء اليمين من وزراء يتهمهم بالفساد.
خلاف آخر بشان تأويل الدستور لا يمكن البتّ به في غياب المحكمة الدستورية العليا. وقد رفض الرئيس سعيّد تقديم أسماء الوزراء الذين يتهمهم بالفساد، على الرغم من طلب المشيشي المتكرّر، فتسميتهم قد تضعه تحت طائلة المساءلة القانونية، إذا حكم القضاء بعدم صحة التهم الموجهة إليهم. هذا ما جعل رئيس الحكومة عاجزاً عن إقالة أيٍّ من وزرائه لهذا السبب، من دون تسلم أسماء من وصفهم سعيد بالفاسدين، فما ضمان أن الرئيس لا يقصد غيرهم.
غياب المحكمة الدستورية العليا سمح لكل طرف من أطراف الصراع السياسي بتأويل نصوص الدستور لمصلحته
انسداد أفق الحل السياسي في تونس والتأويلات المختلفة والمتناقضة للدستور، وعدم قدرة "الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين" على البتّ بنزاعات الصلاحيات بين السلطات، لاقتصار عملها وصلاحياتها على الرقابة الدستورية لمشاريع القوانين فقط، أعاد هذا الانسداد إلى الواجهة ضرورة الإسراع بتشكيل المحكمة الدستورية العليا. وفي محاولةٍ غير جدّية من البرلمان، ورفض حثيث من الرئيس سعيّد، فشل مرة أخرى تشكيل المحكمة الدستورية العليا، ليأتي انقلاب سعيّد غير المسبوق وعقب اجتماع طارئ (عقده في قصر قرطاج) مع مسؤولين أمنيين وعسكريين، أعلن الرئيس التونسي تجميد اختصاصات البرلمان ورفع الحصانة عن نوابه وإقالة رئيس الحكومة هشام المشيشي، كما قرّر تولي السلطة التنفيذية بمساعدة رئيس حكومة يعيّنه بنفسه، وتولي رئاسة النيابة العامة لتحريك المتابعة القضائية ضد من تحوم حولهم شبهات فساد. واعتبر أن خطوته هذه جاءت تلبية لضرورات المصلحة العامة ومتسقةً مع الدستور التونسي، وتحديداً مع المادة 80. ولذلك لم يعلن الرئيس سعيد حل البرلمان وإنما تجميد اختصاصاته، حيث لا يمنح الدستور الرئيس الحق بحل البرلمان إلا في حالة واحدة تكون مرتبطة بعدم حصول الحكومة على ثقة البرلمان، وهي وضعية غير متوفرة حالياً لحصول حكومة المشيشي على هذه الثقة. إلا أن استناد الرئيس سعيّد إلى المادة 80 من الدستور التي تعطيه الحق باتخاذ التدابير الاستثنائية، في حال افترضنا أن تونس تتعرّض لخطر داهم لا يمكن معه السير الطبيعي لمؤسسات الدولة؛ تمنعه من تجميد اختصاصات البرلمان، حيث تفرض المادة المذكورة أن يكون البرلمان في حالة انعقاد دائم. وبالنسبة لإقالة المشيشي، لا يعطي الدستور رئيس الجمهورية الحق بإقالة رئيس الحكومة، وإنما اكتفى بإعطاء الحق له بالطلب من البرلمان التصويت على الثقة الممنوحة للحكومة، ومرتين على الأكثر خلال ولايته لرئاسة الجمهورية (مادة 99 من الدستور التونسي). كما أنه، وبحسب الدستور، لا تعتبر الحكومة مسؤولة أمام رئيس الجمهورية، وإنما أمام البرلمان (مادة 95). كما أن رئيس الحكومة المزمع تسميته بدلاً من المشيشي لا يمكنه ممارسة مهامه ومهام حكومته دستورياً إلا بعد منح الثقة البرلمانية، وهذا شرط يبدو بعيد المنال، بعدما أغلقت المؤسسة العسكرية أبواب البرلمان في وجوه النواب.
لم يتوقف الرئيس سعيّد عن تهديد خصومه السياسيين بالقوى العسكرية والأمنية، وفي نهاية المطاف، طبق تهديده
ومخالفة سعيّد الدستورية الثالثة كانت بتعيين نفسه في منصب النائب العام الجمهوري. صحيحٌ أن الدستور أعطى رئيس الجمهورية صلاحية تسمية القضاة، وعلى فرض أن الرئيس سعيد قرّر تحقيق سابقة قضائية بتسمية نفسه، إلا أن هذا الأمر لا يتم إلا بناءً على رأي مطابق من المجلس الأعلى للقضاء (مادة 106 من الدستور)، وهذا ما لم يتوفر بقرار الرئيس سعيد. والمخالفة الدستورية الرابعة والأهم أنه في غياب المحكمة الدستورية العليا لا يمكن تفعيل المادة 80 من الدستور، وذلك لغياب شرط شكلي يتمثل بإعلام رئيس المحكمة الدستورية العليا. وشرط جوهري، حيث حصر الدستور صلاحية إيقاف التدابير الاستثنائية أو تمديدها فقط بالمحكمة الدستورية العليا التي حرص سعيّد على عدم تشكيلها.
صحيحٌ أن في وسع أي قانوني ملاحظة المخالفات الدستورية في القرارات المتّخذة من الرئيس سعيّد بناءً على تفعيل المادة 80 من الدستور، إلا أن الهيئة الوحيدة المخوّلة في البتّ بدستورية أي قرار أو قانون قائم أو مشروع قانون أو نزاع السلطات هي المحكمة الدستورية العليا، المعطل تشكيلها منذ أقر تشكيلها وحدد هيكلتها ومهامها وصلاحياتها دستور عام 2014، (مواد 118 – 124)، محكمة لم يكتب لها أن ترى النور بسبب عدم قدرة البرلمان على انتخاب سوى عضو واحد من أصل الأعضاء الأربعة الذين عليه انتخابهم. فلو أنه كان قد جرى تشكيل المحكمة الدستورية العليا لما وصلت تونس إلى انسداد بأفق الحل السياسي، فالصراع السياسي والتجاذب والتحالفات والانقلاب على التحالفات حالة شائعة في النظم الديمقراطية البرلمانية، إلا أن غياب المحكمة الدستورية العليا في تونس سمح لكل طرف من أطراف الصراع السياسي بتأويل نصوص الدستور لمصلحته، والأخذ بجزء من النص وإهمال أجزاء أو نصوص أخرى.
التهم الانقلابية محقّة بحق سعيّد، وإن نفيه لها لا يمكن أن يكون من خلال تصريحات شعبوية جوفاء
لم يتوقف الرئيس سعيّد عن تهديد خصومه السياسيين بالقوى العسكرية والأمنية، وفي نهاية المطاف، طبق تهديده ليفتح الباب على مصراعيه لهذه المؤسسة التدخل في الشؤون السياسية والمدنية، تدخّل لن يكون في وسع سعيّد نفسه لجمه مستقبلا، وفي أحسن الأحوال، سيرضى على نفسه أن يتحوّل إلى دميةٍ بيد المؤسسة العسكرية.
كل هذه الحيثيات تجعل من التهم الانقلابية محقّة بحق سعيّد، وإن نفيه لها لا يمكن أن يكون من خلال تصريحات شعبوية جوفاء، وإنما بأفعال جدّية تبدأ بالتراجع الفوري عن الانقلاب الأخير، والدعوة إلى مؤتمر أو حوار وطني شامل يؤسّس لمنع تدخل الجيش بالحياة المدنية وبقائه على الحياد، مؤتمر يضمن تشكيل المحكمة الدستورية العليا التي تكون قراراتها ملزمةً لكل أطراف الصراع في تونس.