انقلاب بالفصحى

01 اغسطس 2021
+ الخط -

كان أجدى للرئيس التونسي، قيس سعيّد، أن يستعين على قضاء "انقلابه" بالكتمان، بدل أن يدلي بمسوّغاتٍ مبتذلةٍ لا تقنع إلا فلول اليساريين العرب، فقد زعم فخامته، في معرض تبريره تجميد البرلمان، أن أعضاء المجلس تطاولوا عليه بالقذف والشتم. بمعنى أن "جلالته" قاد انقلابًا مكتمل الأركان، لا لتصويب مسيرة أو لتقرير مصير، بل لمجرّد "ردّ الاعتبار" لقداسته، انتقامًا ممن "آذوه" بالسبّ، و"خدشوا" كرامته بعباراتهم النابية.

هو انقلاب "شخصيّ"، إذن، في مبتداه ومنتهاه، أو هكذا يريد "الإمبراطور" قيس سعيّد أن نفهم، فهو على استعداد للتحوّل من رئيس منتخب إلى طاغية وديكتاتور إن لزم الأمر، ردًّا على أدنى امتهان لشخصه المبجّل، حتّى لو صدر هذا الامتهان من سلطة تشريعية منتخبة أيضًا، وهو قابل لوأد الديمقراطية "الوليدة" تحت التراب، وإعادة تونس إلى ما قبل زمن زين الهاربين بن علي، إن مسّه نائب بشتيمة أو جازف أحد بالانتقاص من هيبته ومهابته. ما زالت ردة فعل "القيصر" تتعلّق بالنواب وحدهم. أما في ما يتّصل بالشعب، فعليه أن يحمد الخالق لأن فخامته لم تصل إلى سمعه أيّ شتيمة شعبية، وإلا لما كان تورّع عن ارتداء جلد نيرون وحرق تونس، فمقام الزعيم العربي مقدّس لا يحتمل عبور ذبابة واحدة، فكيف بشتيمة؟!

في كل الأحوال، برهن الرئيس "المفوّه" قيس سعيّد أن لا فرق بين زعيم عربي بلغ السلطة بالاغتصاب أو الانتخاب، فالنتيجة واحدة، لأن كليهما، في نهاية المطاف، لا بدّ أن يعود إلى عرق الاستبداد الغائر عميقًا في نسيج سلالة الحكم العربية، من معاوية بن أبي سفيان إلى معاوية بن سعيد، مع حفظ "الفوارق" بالتأكيد، لأن داهية مثل معاوية الأول أكبر من أن يتورّط في تقديم مسوّغات "السبّ" والتحقير لتبرير استبداده وتفرّده بالسلطة.

عمومًا، يبدو أن الفصحى التي يتبجّح بإتقانها سعيّد لم تسعفه في تسويغ انقلابه هذه المرّة، كما أسعفته في الوصول إلى السلطة سابقًا، ذلك أن من يتقن الفصحى لا بدّ أن يكون متمكّنًا من فهم العالم الديمقراطي المحيط به. ألم يقيّض له، مثلًا، أن يشاهد دمى زعماء أكبر الدول كيف يتمّ تشكيلها على هيئة حيواناتٍ تدوّن عليها عبارات أقذع من السبّ والشتم، وتقاد في الشوارع على مرأى من المقرّات الرئاسية، وتتناقلها وكالاتٌ وفضائياتٌ من البلد نفسه، ليراها الرؤساء المستهدفون بهذه السخرية الشعبية؟ ألم يكن يظهر دونالد ترامب، بكل صلافته، كدمية خنزير في شوارع أميركا، فماذا لو استبدّت به نزعة قيس سعيّد الثأرية، هل كان يجازف بضرب شعبه بالقنابل النووية، مثلًا، لردّ اعتباره؟ وماذا لو تلقّى قيس بن سعيد صفعة "شعبية" على غرار التي تلقاها الرئيس الفرنسي ماكرون من مواطن غاضب في الشارع؟ هل كان الأخير سيثأر لكرامته بإبادة باريس، أو سينشر الجيش الفرنسيّ بدباباته ومدرّعاته في ساحة الشانزلزيه، ويحاصر البرلمان، ويلغي الديمقراطية وتاريخ الثورة الفرنسية بجرّة قلم؟

كان حريًّا بالرئيس سعيّد أن ينسجم مع فصحاه، وأن يتحدّث بلغةٍ مباشرةٍ لا تحتمل التأويل: إن ما أقدم عليه هو انقلاب كامل، بوحي ومساعدة وتمكين من متعهّدي إجهاض ثورات الربيع العربية. مثلما كان على ضحايا المستبدّ الجديد (آخر طبعة) أن يستشعروا نزعات سعيّد ومؤشّرات انقلابه على ثورة الياسمين، فقد كانت هناك مقدّمات شتّى ظهر بعضها عندما كان يستدعي فخامته وزراء ونواباً إلى قصره لتقريعهم ومعاملتهم معاملة الأقزام على الملأ الإعلامي.

أمّا فلول اليسار العربي الذين دبكوا ورقصوا على "الوحدة ونصّ" احتفالًا بانقلاب قيس سعيّد على ما أسموه "مجلس الإخوان" وحزب النهضة، فلا حاجة لتذكيرهم بالطُّرفة التي تتحدّث عن "زوجٍ أراد أن يقهر زوجته فخصى حاله"، لأن المستهدف الوحيد من كلّ هذه الانقلابات هو الحرية نفسها التي أشبعونا تنظيرًا لها، ونحمد الله أنهم لم يتسلّموا أي سلطة.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.