انقلاب آخر في أفريقيا؟ لا
بالنسبة لكثيرين "إنه انقلاب آخر في أفريقيا". لا يهمّ إن كان اسم البلد النيجر، مثلما حصل في 26 الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، أو غيره. لماذا هذه النمطية لهؤلاء؟ لأن أفريقيا تبقى عملياً القارّة الوحيدة التي لم تخرج من موسم الانقلابات العسكرية منذ نيل معظم دولها الاستقلال عقب الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945). الأكيد أن للاستعمار ثم تغلغل الشركات، الأوروبية في الأساس، وبعدها الأميركية والروسية والصينية، تأثيراً كبيراً في حصر الثروات الأفريقية بيد قلّة قليلة على حساب أكثريةٍ شعبية. وأيضا، لم يراع ترسيم حدود دول أفريقية عديدة، لا كلها، التوزيع القبلي والإثني فيها، لذلك تبقى الحدود بين البلدان شكلية في أوقاتٍ كثيرة، على قاعدة أن الموروثات القبلية لا تعترف نظرياً بحدودٍ فاصلة. وهي مشكلة تواجهها نيجيريا، المتحفّزة لعمل عسكري في النيجر، تحت راية "المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا" (إيكواس) من أجل إعادة الرئيس محمد بازوم إلى منصبه، كون أفراد عديدين من جيشها ينتمون إلى قبيلة الهوسا، التي ينتمي إليها كثيرون في جيش النيجر.
انقلاب آخر؟ ربما، لكن قادة الانقلابيين الجدد مختلفين بعض الشيء عن أسلافهم. لم يعيشوا عملياً تحت ظلال استعمار أو انتداب أو احتلال، بل وجدوا قوّة غربية تدرّب جيشهم، ويحتكّون معها يومياً. في مالي، يبدو قائد العسكر هناك، أسيمي غويتا، وكأنه نموذج مختلف عن قادة عسكريين سابقين. يتصرّف وكأنه يدرك ما يفعل، ويعمل وفق رؤيةٍ محدّدة، قد تكون منبثقة من علاقته الصلبة مع الروس، التي كلّلها بطلب مساعدة مجموعة فاغنر. في بوركينا فاسو، يُظهر قائد العسكر إبراهيم تراوري شخصية مغايرة لما عهده مواطنوه. يتشابه الرجلان بأمر أساسي: انقلبا مع مجموعة من "الرفاق" على حكم مدني، ثم انقلبا على رفاق السلاح لتمتين نفوذهما. قد يكون ذلك مجرّد رواية مستنسخة عن كلاسيكيات الانقلابات، لكنها في الواقع مختلفة أكثر.
لم يحدُث أن وجد بلدان أفريقيان نفسيهما في خندق واحد بهذه التكاملية، كما حصل مع بوركينا فاسو ومالي، اللذيْن قرّرا مساندة النيجر في أي محاولة عسكرية خارجية لإعادة بازوم إلى السلطة. يكفي وصفهما هذا التدخل، إذا حصل، بأنه "إعلان حرب ضدّهما". ومشاركة النيجر حدودا برّية مع بوركينا فاسو ومالي تفسح المجال لقليل من الخيال عمّا قد يحصل في حال وقوع تطاحن إقليمي في الغرب والساحل الأفريقيين.
لا، إنه ليس مجرّد انقلاب آخر في النيجر، ولا نهاية لـ"استعمار من خارج القارّة"، بل محاولة لإحلال نفوذ مكان آخر، ذلك لأن أفريقيا حالياً خشبة خلاص طاقوية للمعسكريْن الغربي والشرقي. يحتاجها الأميركيون والأوروبيون بقدر حاجة الروس والصينيين إليها. ومعاركها السياسية، التي تُنبئ بصراع عسكري مرير، جزءٌ من التنازع الغربي ـ الشرقي، لا محاولة صياغة استقلال تام يسمح لدولها في التعامل من الندّ للندّ مع باقي الدول. والمفارقة أن هذا التشنّج لم يبلغ هذا المستوى من الخطورة أيام الحرب الباردة (1947 ـ 1991). حينها كان عدد السكّان في الكوكب أقل بكثير مما هو عليه الآن، وكان النمط الرأسمالي الاستهلاكي المفرط أقلّ مستوىً مما هو عليه حالياً. في أيامنا، تغيّر كل شيء. عدد السكان تجاوز الثمانية مليارات نسمة. سلاسل التوريد باتت نقمة لا نعمة، بعد اختباري وباء كورونا والغزو الروسي لأوكرانيا. الحاجة إلى الطاقة والموارد والمعادن في تزايد لا تناقص. والنمو الديمغرافي أصبح مشكلة لدول عديدة في غياب الإنماء الداخلي، إلى درجة أن الهجرة غير النظامية أضحت نهجاً لا استثناءً.
ما حصل في النيجر بداية مفصلية لإعادة رسم قواعد جديدة، لن تنتهي بعودة الديمقراطية، ولو بعد حين، إلى دولٍ يسيطر عليها الانقلابيون، بل ستكون القارّة الأفريقية أولى اختبارات العالم الجديد الذي سيتشكّل. والأسوأ أن الأفارقة سيكونون ضحية عشوائيته، فيما باقي العالم سيتعلم من أخطائه.