انزلاق قوى التغيير في لبنان إلى منطق السلطة
منذ ما قبل الانتخابات النيابية اللبنانية في مايو/ أيار 2022، وبعض قوى التغيير وأفرادها ونوابها يتموضعون في منطقة رمادية سياسيًا، تفرض الالتزام بآلياتها وشروطها، واللجوء، بشكل مستمر، إلى منهجية يغلب عليها طابع التفكير الدفاعي الذي يعيد الأوراق إلى سياقات الحالة السياسية التي كانت الأمور عليها قبل انتفاضة تشرين 2019. فالتموضع في مكانٍ كهذا يعيد على اللبنانيين، وبتكرار مملّ، وعند كل استحقاقٍ دستوري، فرض الشروط التي سادت ما قبل الفعل السياسي المواجه والمنتفض على ثنائية 8 و14 آذار التي كانت تهيمن على البلد، تنهبُه، وتتحاصصه، وتتقاسم خيراته، قبل ذلك.
لذلك، لا بد من النظر إلى أن التموضع السائد في استحقاق رئاسة الجمهورية اليوم، والذي تعتبر بعض جماعات التغيير أنه يهدف إلى المشاركة في هزيمة مرشّح الثنائي الشيعي، أي سليمان فرنجية، وليس المشاركة في انتصار مرشح ما تبقى من قوى 14 آذار، أي جهاد أزعور، هو ليس إلا مساهَمة في إعادة تعويم خطاب ما قبل الانتفاضة، ولو حاولت تلك القوى إجراء كثير من عمليات التجميل له، فهو إعادة اللبنانيين إلى مرحلة انقسامٍ لا يكون الانهيار الذي نعيشه اليوم إلا واحدةً من حالاتها المستمرّة، خصوصًا وأنه يتأسّس على المفاضلة بين مرتكبين لاختيار الأقل سوءًا. إذ لطالما سادت هذه المعادلة في لبنان، ولطالما كانت على حساب الفئات المتوسّطة والشعبية والطبقات الأكثر فقرًا في الدولة، ولصالح قوى النظام والطبقة الحاكمة بكل ما للتفاصيل من معنى.
بالعودة إلى الانقسام حول مرشّحين لأطراف السلطة في معركة رئاسة الجمهورية، فإن أولهما المرشّح أزعور الذي كان وزيرًا أسبق للمالية في حكومة فؤاد السنيورة بين عامي 2005 - 2008، أي في أشدّ لحظات البلد حراجة في تاريخه السياسي، حكومة متهمة باختفاء 11 مليار دولار وتمثّل هيمنة الذهنية التحاصصية على النمط الاقتصادي ومنطقه السائد. وثانيهما سليمان فرنجية، وهو أيضًا وزير أسبق في عدّة حكومات أبصر بعضها النور في فترة رفيق الحريري، وكانت أهم تلك التي شغلها موقع وزير الداخلية فترة اغتيال الحريري نفسه، مع ما أدّاه من دورٍ ملتبس في كيفية التعامل مع ساحة التفجير، فهو ينتمي لتيار سياسي يمتدّ في خط بياني واحد يرتبط بالطاغية السوري، ناهيك بمشاركته في عمليات المحاصصة والاستفادة من الدولة ومن وظائفها سياسيًا. فإن كان هذا الانقسام يعني أي شيء، فهو يعني، بالشكل والمضمون، مراوحة البلد في حالةٍ تظهر ملامحها المستقبلية بوصفها انزلاقا إلى أمكنة أخطر وأكثر دمارًا على مستوى الانهيار، إذ إن العودة إلى المفاضلة بين خط حزب الله الذي لا يُنتج إلا هيمنة لغة التهديد والترهيب وسياسة الاتهام، بما يعنيه من هيمنة التوتّرات المتنقلة في لبنان ومع بقية الدول، المرتبطة بطموحاته الداخلية وبتبعيّته للمحور الإيراني ومصالحه، ناهيك بانزلاقه المستمر إلى المشروع الاقتصادي التحاصصي والريعي الذي كان سائدًا، وبين خطٍّ آخر لربما يكون أقلّ إنتاجًا للقلق والتوتر مع بقية العالم ودوله، إلا أنه لا يختلف أبدًا عن سياسات الترهيب والترغيب التي سادت بأشكالٍ مختلفة لناحية توزيع الاتهامات على الآخرين، وإن كانت أخفّ في حدّتها ولا تُترجم على أرض الواقع، بالإضافة إلى تبنّي أزعور خططًا مالية واقتصادية جرى اعتمادها في السابق، وأوصلت البلد إلى الدمار والتردّي اللذين وصل إليهما أيضًا.
ليس هناك أي احتمال آخر غير سيادة الانسداد في لبنان
في الحالتين، ليس هناك أي احتمال آخر غير سيادة الانسداد في لبنان، خصوصًا وأن الحالة بأكملها ليست إلا نموذج استمرار المراوحة من دون أية حلول جذرية، انتصر أحد الأطراف أو انهزم الطرفان. كلها تؤكّد على المؤكّد، في بلد لم تعد تنفع معه وفيه الحلول الترقيعية. إذ ليس هناك من طروحاتٍ تتموضع خارج شروط اللعبة المعطوبة التي سادت، والتي عادت لتسود اليوم في ظل انزلاق بعض قوى التغيير إلى ملعب السلطة، وإلى ميادينها، وإلى خريطة اشتباكها والمواجهة على أرضها وبأدواتها، وبمنطق المفاضلة الذي تفرضه. وهنا الطامة الكبرى التي واجهت كل آليات التغيير في الماضي، والتي تواجه آليات التغيير المعطوب اليوم، وآليات التغيير في المستقبل. خصوصًا وأن هذا النوع من سكك التغيير المستقبلي يُفترض بناؤها اليوم، وليس كما جرى في السنتين الأخيرتين، حين عملت قوى التغيير، وبشكل مستمرّ، ومن دون كللٍ أو ملل، على ما يمكن الارتكاز عليه، على اعتبار أن مجرّد إحداث خروق، ومجرد إسقاط مرشّح من هنا أو هناك، من دون أي عنوان سياسي، من شأنه الإبقاء على حالة التموضع التي كانت سائدة، من دون القدرة على بناء منطق أو مسرح سياسي بديل، وقد اعتبرت الأمر إنجازًا، هو خطوة وفعل سياسي يمكن الركون إليه.
هي قراءاتٌ أحلاها مرّ، أحلاها في قمة الشعبوية التي لم تؤدِّ بالتغيير في لبنان إلا إلى حالات أكثر تردّيًا، تسطيحًا على مسرح السلطة، وما زالت كل القوى والأحزاب التغييرية والإصلاحية تتخبّط فيها، ويبدو أنها ستكون النموذج الذي يسيطر في المقبل من الأيام في ظل الإصرار على عدم إحداث أي خرق جدّي في الخطاب والمقاربة وفي إنتاج المشروع السياسي، بل الإمعان في اللعب البهلواني على حبال كانت قد رسمتها السلطة منذ سنوات وسنوات.