انتهاك المرأة المصرية.. مسؤولية من؟
تحرّشات.. واعتداءات.. وانتهاكات، بالألفاظ البذيئة، والإشارات البذيئة، والأفعال البذيئة، تحت حماية الأفكار الأكثر بذاءة، حكاية كل يوم لأي امرأة مصرية. انتهاكات في الشارع، في أماكن العمل، السكن، مواقع التواصل الاجتماعي، حصار "حرفيا"، لا يجعل لأي امرأة فرصة أن تكون إنسانا طبيعيا، يمشي في الشارع، يركب المواصلات، يتحدّث إلى الناس، يردّ السلام، يضحك، يتصرّف بعفوية، بأريحية. مجرّد وجودها في المجال العام دعوة مفتوحة إلى انتهاكها. يتجاوز التحرّش المرأة الناضجة إلى الأطفال، كما شهدنا أخيرا في واقعة طفلة المعادي، بالصوت والصورة. وتتجاوز الاعتداءات اقتحام المساحة الخاصة إلى اقتحام البيوت. تشهد مصر الآن حادثا مروّعا. حارس عقار رأى رجلا يصعد إلى شقة امرأة، طبيبة، (35 سنة)، فاعتبرها واقعة زنا تستوجب التدخل، أبلغ صاحب العقار وزوجة صاحب العقار وجار صاحب العقار، واستجاب الجميع، وصعدوا، وكسروا باب الشقة، واقتحموها، واعتدوا على السيدة بالضرب، وألقوا بها من الدور السادس، وماتت.
اشتهرت الواقعة، وتناولتها الجرائد والشاشات، وتحوّلت إلى "تريند" لانتهائها بجريمة قتل، لكنها ليست استثنائية. تشهد مصر، يوميا، وقائع انتهاك حرمة بيوت، وتوقيف فتيات وسيدات في الشوارع وسؤالهن عن هوية من يصحبهن، أو يزورهن. الأمر نفسه لا يتكرّر مع الرجال طبعا، فالرجل بشر، يخطئ ويصيب، وله من رصيد الستر ما يسمح له بذلك. يتحمّل الخطاب الديني جزءا من المسؤولية، صحيح، دعاة الفضائيات ووعاظ "فيسبوك" و"يوتيوب"، لكنه لا يتحمّلها وحده. ثمّة روافد أخرى، وخطابات أخرى، وعادات وتقاليد تحرم المرأة حتى مما أقرّه لها الشرع بنصوص واضحة وثابتة ومستقرّة ومقننة (الميراث في صعيد مصر نموذجا). ولا تجد المرأة هنا من يحميها، لا الدولة وقوانينها، ولا الخطاب الديني الذي يطالبها ولا يطالب لها. لا يتوقف دور الدولة على الغياب، والتغاضي و"الطرمخة"، إنما يتجاوز إلى تصدير واجهاتٍ حقوقيةٍ رسميةٍ تمارس خطابا دعائيا، وادعائيا، ولا ينجز شيئا حقيقيا، ومحاربة من يحاولون إصلاح أوضاع المرأة المصرية وحمايتها، افتح القوس وضع أسماء بارزة، مثل مُزن حسن (نظرة للدراسات النسوية)، وعزة سليمان (مركز قضايا المرأة المصرية)، وجمال عيد (الشبكة العربية لحقوق الإنسان)، وعايدة سيف الدولة (مركز النديم لمناهضة العنف والتعذيب)، وهشام جعفر وكوثر الخولي (مؤسسة مدى للتنمية الإعلامية)، جميعهم تعرّضوا لعقوبات مختلفة، إغلاق مراكزهم الحقوقية، وحرمانهم التراخيص الرسمية، ومصادرة أموالهم، ومنعهم من السفر، واعتقالهم بتهمة تهديد الأمن القومي.
تحتاج السلطة الاستبدادية إلى إحكام سيطرتها على قطاعات المجتمع كافة، تتغذّى على الاستبداد، بأشكاله وألوانه، تدعمه ليدعم سلطتها واستمرارها، توفر له البيئة المناسبة للتوالد والتكاثر، تشرعنه، تقنّنه، تستخدمه، توظفه، توجهه، تحكم به. من يملك الفضائيات؟ من يمنح واعظا حق الظهور والذيوع والانتشار والنجومية، وينزعه من آخرين، من يسمح لحقوقيٍّ يتبعه ويحاصر آخرين، من يملك سلطة إصدار القوانين، وتوجيه بوصلتها؟ غير صحيحٍ أن الدولة في مصر تعبر عن المجتمع الذي أنتجها. العكس هو الصحيح، الدولة تنتج المجتمع، ومؤسساته وخطاباته ووعيه وثقافته ونمط تدينه. تعيد ترتيب مكوناته التاريخية وفق مصالحها. متون التديّن المصري في عصر أنور السادات هي هوامشه في الحقبة الناصرية، والعكس صحيح في السياسة والاقتصاد والاجتماع، إذا "الرأس" يوما أراد الحياة (أو الموات)، فلا بد أن يستجيب القدر. عصا الدولة أقوى من عصاتها، لا يعني ذلك أن النظام هو الفاعل الوحيد، لكنه الفاعل الرئيس، الأقوى، الأسرع. يأتي التغيير في مصر، غالبا، من فوق. وإذا أرادت السلطة حماية المرأة، فعلا، فالحلول موجودة، ومتاحة، ولا أحد، يؤبه له، يقف في مواجهتها سوى الدولة نفسها. تركيع نصف المجتمع على يد نصفه الآخر، من دون تدخل من السلطة، هو في حد ذاته سلطة، قوة، استبداد مجاني، سيطرة مجانية، صفقة رابحة على المستويات كافة. تربح الدولة تعطيل فاعلية قطاع كبير من المواطنات، وشغلهن بأنفسهن، وبأبسط حقوقهن، ويكسب "الحقوقي الرسمي" استمرار الأزمات، ومن ثم التمويلات الخارجية التي تسمح بها الدولة، حصريا، لمحاسيبها، وتخسر المرأة وحدها.