انتفاضة فلسطينية في "كان"
صحيحٌ أن مقادير العدالة وفيرةٌ في قضية فلسطين، وأنها قضية شديدة الوضوح من حيث حق شعبها في وطنه وأرضه، وفي تقرير مصيره، غير أنها عويصةٌ في غير أمر وشأن. كما دلّت وقائع وشواهد غزيرة. جديدُها أخيرا انسحاب 12 ممثلا في فريق فيلم سينمائي من مهرجان كان، في دورته الحالية، المتواصلة حتى يوم السبت المقبل، ومقاطعة فعالياته، احتجاجا منهم على تصنيف الفيلم إسرائيليا، الأمر الذي اعتبروه، في بيانٍ غاضبٍ ذاع في الإعلام، "طمسا للهوية الفلسطينية". ووجوه الفرادة في هذه الواقعة عديدة، أولها وأهمها أن هؤلاء الفنانين، وهم فلسطينيون من الأراضي المحتلة في 1948، يحملون الجنسية الإسرائيلية، غير أنهم يؤكّدون، كما عموم أهل البلاد هناك، بديهيّة صفتهم فلسطينيين. والفيلم، بحسب إيضاح البيان (أنصح بقراءته كاملا وباهتمام)، ينشغل بحالة الحصار التي تُحدثها الحواجز العسكرية الإسرائيلية، وبالعوائق المادّية والنفسية التي يعيشها الفلسطينيون. وثاني أوجه الفرادة أن مخرج الفيلم إسرائيلي، واسمُه عيران كوليرين، وقد صرّح إنه يفهم ويتفهم قرار الممثلين "الغياب السياسي" عن أنشطة المهرجان السينمائي العالمي، للاحتجاج على "المحو الثقافي"، وإنه يدعم كل قرار يتخذونه، فيما "يؤلمه، في الوقت نفسه، أنهم لن يكونوا هناك للاحتفال بعملهم المذهل، لكني أحترم موقفهم". وثالثا، أُنتج الفيلم، بتمويل ومنحةٍ من القناة العاشرة للتلفزيون الإسرائيلي ومن الحكومة الفرنسية، ومن شروط التمويل والمنحة في عام 2018 أن يتم عرضه بوصفه فيلما إسرائيليا. ولكن حسابات الممثلين الفلسطينيين مختلفة، إذ قال بيانهم الذي يجوز حسبانُه انتفاضة "ليس بمقدورنا التغاضي عن التناقض الكامن في تصنيف الفيلم في مهرجان كان فيلما إسرائيليا، بينما تواصل إسرائيل حملتها الاستعمارية المستمرّة منذ عقود، وممارساتها في التطهير العرقي والطرد والفصل العنصري الموجّه ضدنا، ضد الشعب الفلسطيني". وجهر الموقّعون على البيان بأن خطوتهم ليست رمزيةً، وإنما "نعارض بشدّة إدراجنا في مثل هذه المناسبات من خلال إقصائنا ومحونا كفلسطينيين وفلسطينيات". ولعله وجهٌ آخر من فرادة القضية كلها أن الفيلم، واسمُه "فليكن صباحا" عن رواية انكتبت باللغة العبرية، بالاسم نفسه، وكاتبها فلسطيني إسرائيلي الجنسية، سائد قشوع (صدرت الرواية بالعربية، ترجمة ماري طوق، دار الساقي، بيروت، 2012).
تشتبك في الانتفاضة الفلسطينية هذه في مهرجان كان خيوط التعقيد العويص في قضية فلسطين، في الوجه المخصوص بالهوية الفلسطينية واستهدافها، بمقاومة محوها. لعلها تتّصل بخطورة "عملية الأسرلة" على الهوية العربية لفلسطينيي الداخل، والتي طالما جاء عليها عزمي بشارة، غير مرة، سيما في كتابه "العرب في إسرائيل، رؤية من الداخل" (صدرت طبعته الأولى باسم مختلف، ثم صدرت الثانية في عام 2000 عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، ثم ضمّت طبعته الثالثة في 2008 عن المركز نفسه فصلين مُضافين). ولمّا كانت المناسبة هنا سينمائية، ففي البال أن فيلم هاني أبو أسعد "الجنة الآن" فاز في عام 2006 بجائزة الكرة الذهبية في هوليوود، وتم الإعلان عنه فيلما من فلسطين، الأمر الذي أحدث غضب إسرائيل ولوبيّاتها، بزعم إنه "ليس من دولةٍ اسمها فلسطين، ولا يحق للقائمين على الجائزة تقرير الحدود والاعتراف بكيانات سياسية"، على ما أشاعوا. ولمّا دخل الفيلم في منافسات جوائز "أوسكار"، اشتغلت ضغوط صهيونية وإسرائيلية من أجل ألا يعدّ ممثلا لفلسطين، وإنما للسلطة الفلسطينية!.
حروب الأسماء والمسمّيات والتسميات لأمكنة وجغرافيات في فلسطين، ولوقائع في التاريخ، طويلة مع العدو الإسرائيلي، وفي المقدمة يظلّ اسم فلسطين مستفزّا لدولة الطرد والعسف والتهجير (ولصهاينةٍ عربٍ جددٍ أيضا!). ومن هذا القبيل المعركة على تسمية "إسرائيل" في سجلات الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) أنها لعبت في تصفيات كأس العالم في عام 1934في إيطاليا، فيما العصابات الصهيونية لم تكن قد أقامت دولة الاحتلال، وفيما فلسطين التي استعادت عضويتها في الاتحاد عام 1998 هي التي شاركت في تلك التظاهرة الكروية.
ليست انتفاضة فلسطينيي "فليكن صباحا" في مهرجان كان عارضةً وعابرة.. وإنما هي جوهريةٌ تماما في قضية فلسطين، العويصة من قبلُ ومن بعد.