انتخابات المهندسين المصريين والعودة إلى المدرسة القديمة
كان مشهد الجمهور مهيباً، فقد انتظم الجميع في صفوفٍ طويلةٍ بشكل تلقائي، رغم الحرارة والشمس والزحام، لكن أحداً لم يشكُ. المكان منظّم، والإجراءات منضبطة، والموضوع كان يمرّ بمنتهى البساطة. وقفتُ يومها في الطابور وسط جموع المهندسين، أشارك في الحوارات الجانبية مع الزملاء، كانت هناك نبرة تفاؤلٍ ممزوجةٌ بالتحدّي. كان الجميع تقريباً يتحدّث عن دعم النقيب في مواجهة مجلس النقابة الموالي للحكومة، وذلك بعد دعوة مجلس النقابة (ينتمي أعضاؤه لحزب الأغلبية) لطرح الثقة في نقيب المهندسين المنتخب والدعوة إلى عزله، بعد عدّة مواقف حدث فيها تضارب في اتخاذ القرار.
مرّ الوقت بسلاسة، واقتربتُ أكثر من منصّة التسجيل لمعرفة لجنتي الانتخابية. عادة، تكون انتخابات نقابة المهندسين منتظمة ومنضبطة. كنتُ قد أقدمت على الترشّح لعضوية مجلس النقابة منذ عدّة سنوات، ولكن الحظ لم يحالفني، ولكنها كانت تجربة هامة وجديدة ومفيدة. تذكّرت أنّ النقيب نفسه الذي أقف الآن في الطابور الطويل في هذا الجو الحار من أجل دعمه، ورفض سحب الثقة منه، هو نفسُه من كنتُ أقف ضدّه في قائمة منافسة منذ حوالي خمسة أعوام. الحياة مليئةٌ باختياراتٍ صعبةٍ ومركّبة، أو كما يقال في مصر أحيانا "عصر الليمون" على بعض الأمور من أجل تقبّلها. وفي السياسة، يُقال أحيانا إنّ عدو عدوي هو صديقي، فنقيب المهندسين نفسُه الذي ندعمه الآن، والذي حشدنا أيضا لفوزه قبل عامٍ، هو ما وقفنا ضده قبل خمسة أعوام، عندما استشعرنا أنه حادَ عن الطريق، وخالف وعوده، ولكن إزاحته وقتها تسبّبت في فوز مرشّح السلطة أو الحكومة الذي حوّل نقابة المهندسين إلى كيان تابع للسلطة وغير مستقلّ، وأيضا النقيب نفسه الذي ندعمه ونقف خلفه الآن هو نفسُه الذي دعمه نسبة ضخمة من المهندسين عام 2014 ضد النقيب والمجلس المحسوبين على جماعة الإخوان المسلمين.
مرّ مزيد الوقت، حتى وجدتُ نفسي أمام الصندوق الشفّاف، طويتُ البطاقة بعد التعليم على علامة "لا" لسحب الثقة من النقيب، ثم ألقيتها في الصندوق الشفّاف. قال لي القاضي: "من فضلك، ضع إصبعك في الحبر". ابتسمتُ وفعلت، ثم خرجتُ وأنا مليء بمشاعر مركّبة بين الفخر والشجن والحنين، فخورٌ لأنّي أنتمي لنقابةٍ مهنيةٍ استطاعت فرض إرادتها رغم أنف السلطة، وفخورٌ بالانتخابات المنضبطة والتصويت الحرّ الذي أصبح من النوادر في مصر، يملؤني الحنين لانتخابات حرّة ونزيهة في المجال السياسي في مصر، وهو الإجراء الذي غاب عن مصر منذ 2012، كيف أصبح التصويت الحرّ بدون بلطجة وإرهاب مجرّد ذكرى من الماضي؟
كيف أصبح التصويت الحر بدون بلطجة وإرهاب مجرّد ذكرى من الماضي؟
تعود الأزمة بين النقيب الحالي ومجلس النقابة إلى عام سابق، وربما أكثر، فالمجلس الحالي موالٍ للنقيب السابق (كان وزير النقل سابقا)، وأيضا ينتمي أعضاء مجلس النقابة لحزب الأغلبية المدعوم من السلطة. بدأت تظهر مشكلاتٌ تعارض الاختصاصات ومحاولات مجلس النقابة تعطيل قرارات نقيب المهندسين في قضايا، مثل التعليم الهندسي الخاص، وأيضا رفض النقيب الحالي بيع أصول نقابة المهندسين، فقد كثرت شكاوى المهندسين وشيوخ المهنة من افتقاد بعض "المعاهد الهندسية الخاصة" معايير الجودة، وأصبحت مجرّد مشروعاتٍ ربحيةٍ لا تهتم كثيراً بمعايير التعليم الهندسي المنضبطة، وهو ما يضرّ سوق العمل بشكل عام، ويؤدّي إلى افتقار المهندسين الجدد مقوّمات كثيرة هامة وضرورية.
انتهت عملية التصويت، وألقيت السلام على بعض الأصدقاء، وتبادلنا حديثاً سريعاً، وبعدها كتبتُ مشاركة على وسائل التواصل الاجتماعي، للتعبير عن فخري بزملائي المهندسين ووعيهم وانضباط عملية التصويت، وأنّ النتيجة سيتم قبولها أيّاً كانت، لأنها ناتجة عن إرادة المهندسين المصريين، وكيف أنّ ما حدث اليوم من المشاهد النادرة التي نرى فيها عملية تصويتٍ بدون رشاوى انتخابية أو إجبار الفقراء والضعفاء على اختيار مرشّحي السلطة، وكيف أنها من الانتخابات النادرة التي تتم بدون بلطجية وأسلحة وشغب واستعراضٍ للقوة من مرشّحي السلطة.
عند ذهابي إلى الفراش، لمحت أنّ هاتفي يضيء كثيراً ويستقبل رسائل عديدة، لمحت كلمة بلطجية في أحد الإشعارات. خلال ثوان كنت قد غرقت في نومٍ عميق، وأنا لا أعلم هل كان بسبب اليوم المزدحم أم بسبب الشعور بالغبطة والرضا بعد مشهد الانتخابات. عندما استيقظت، وجدت عشرات المكالمات الفائتة، رسائل وفيديوهات تصف واقعة التعدّي من بلطجية الحزب الحاكم.
كانت الفيديوهات المنتشرة محزنةً حقا، جحافل من الغوغاء يقودهم قياديون من حزب الأغلبية، وبعض نواب البرلمان من الحزب نفسه، يصحبهم عشرات من أنصارهم ذوي البنية القوية، يحطمون صناديق الاقتراع قبل إعلان النتيجة. لم يكن ذلك القطيع من المهندسين، ولا أعضاء في النقابة، ولا ناقة لهم ولا جمل. قدموا من أجل المجاملة والمناصرة، حتى لو كان بالاعتداء على آخرين، كما تفعل القبائل أو المليشيات في الصراعات القبلية، حيث تكون الغلبة للعصبية وللانتماء العرقي والقبلي، وليس الدفاع عن مبادئ. وربما شارك بعض البسطاء طمعاً في مكافأة أو وجبة، مثلما كان يحدُث في التجمّعات التي تعتدي على مسيرات المعارضة قديما.
كان الحدث جللاً، اعتبره بعضهم مؤشّراً إلى الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، مثلما كان يحدُث قبل ثورة 2011، حيث تتدخّل جيوش البلطجية من أجل ترهيب الناخبين وتغيير النتائج لصالح الأقوى والأكثر مالاً وعتاداً. ولذلك انتظر كثيرون كيف ستتعامل جهات التحقيق في هذا الأمر، ورغم انتشار صور وفيديوهات توضح وجود قيادات من الحزب ونوابه البرلمانيين واشتراكهم في واقعة التعدّي، صدر بيانٌ باهتٌ يتحدّث عن تحقيقٍ في الواقعة بين جميع الأطراف، وهو ما اعتبره بعضُهم مساواة بين المعتدي والمعتدى عليه، ولكن بعد عدّة أيام حدثت جلسة صلح عرفية، حضرها وزيرا الري والنقل ونقيب المهندسين، بالإضافة إلى عضاء مجلس النقابة المتورّطين في واقعة البلطجة.
بيان باهت يتحدّث عن التحقيق في الواقعة بين جميع الأطراف، وهو ما اعتبره بعضهم مساواة بين المعتدي والمعتدَى عليه
انتهت جلسة التسوية باستقالة أعضاء مجلس النقابة المحرّضين أو المتورّطين في واقعة التعدّي وتمزيق أوراق الاقتراع، فيما بدا أنه تسويةٌ ما لوقف ملاحقتهم قضائياً بعد ذلك، وربما هناك من قرّر الاكتفاء بتوبيخهم وإجبارهم على الاستقالة، بديلاً عن المسار القانوني الرسمي.
وبشكل عام، في السياسة كثير من المواءمات و"عصر الليمون". لذلك ليس غريبا أن تتبدّل خريطة التحالفات، وينتقل بعضهم من ذلك المعسكر إلى معسكر آخر، طبقاً للانتماء الحزبي أو الإيديولوجي، أو حتى الموقف والثقل السياسي لطرف أو آخر، ففي هذه الأيام، نرى من كان مؤيداً للسلطة منذ سنوات، وقد انتقل إلى صفوف المعارضة حاليا، وهناك من كان إصلاحياً في الماضي، ولكن خطابه أصبح الآن أكثر راديكاليةً وثوريةً عن كلّ تاريخه السابق. وفي المقابل، هناك من كان خطابه راديكاليا ثوريا منذ سنوات، وأصبح يميل إلى الحلول السياسية والتفاوضية، وهكذا.
وهو ما يثير تساؤلاتٍ مشروعةً عن الاعتماد على الاستحقاقات الانتخابية المقبلة وسيلة لإصلاح أو تغيير محتمل، وإنْ لا يعوّل كثيرون عليها مطلقا، فهل تتغيّر طريقة تعامل السلطة مستقبلاً، خصوصا مع أجواء السماحية المحدودة أو الانفراجة المحسوبة المصاحبة لحالة الحوار الوطني؟ والجدير بالذكر أيضا أنّ انتخابات نقابات الصحافيين والمهندسين والأطباء لم يُلاحظ فيها تدخل فج في أثناء إجرائها، وكان الفائزون من المعارضة أو المستقلين، وخسر فيها مرشّحو السلطة، حتى واقعة العنف الأخيرة في نقابة المهندسين تمّ تداركها بتسويةٍ ما، واحتفظ النقيب المنتخب بموقعه، ولكن هل تستمرّ حالة الانفراجة المحدودة تلك في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، مثل البرلمان والرئاسة والمحليات؟
لدى بعضهم تفاؤل طفيف مشوب بالحذر، ونسبة ضخمة لا تزال متشكّكة. ولكن هل هناك انفراجة ما أو مساحاتٌ يمكن البناء عليها بحقّ؟ هذا ما ستجيب عنه الشهور المقبلة.