امتحان متبادل في "العدالة والتنمية" المغربي
وجد التيار الإسلامي المؤسساتي في حزب العدالة والتنمية، المغربي، نفسه في مفترق الدعوة والسياسة، عندما تعلق الأمر باتخاذ موقف من تطورات الوضع في بلده، سيما شقّه المتعلق باعتراف الولايات المتحدة الأميركية بسيادة المغرب على الأقاليم الجنوبية، واستئناف العلاقة بين الرباط وتل أبيب، فقد لاحظ المتتبعون أن البلاغات (البيانات) الصادرة عن مكونات هذا التيار لم تمْتح من القاموس نفسه، لا هي ارتكنت إلى الموقف نفسه، ولا عالجت الأمر من الزاوية نفسها، بالتقدير والبلاغة نفسيهما.
هكذا جاء بلاغ الأمانة العامة للحزب، برئاسة سعد الدين العثماني، رئيس الحكومة المغربية في الوقت نفسه، دبلوماسيا ومختلفا جدا عن البلاغ الذي أصدرته الأمانة العامة لحركة التوحيد والإصلاح التي تعد الحاضنة الأيديولوجية والروحية، بل والبشرية للحزب... هناك قيادتان وبلاغان. مرّت حركة التوحيد والإصلاح، والتي سبق أن ترأسها أحمد الريسوني، الرئيس الحالي للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، مرور الواجب على قضية الصحراء التي تعد قضية مركزية في الوجدان والخطاب المغربيين، وقاعدة للموقف العام لدى النخب، وأعطت لاستئناف العلاقة مع إسرائيل، كامل البلاغ … والأهمية، فقد أعلنت "موقفها الرافض والمستنكر لكل محاولات التطبيع والاختراق الصهيوني"، واعتبار ما أقدم عليه المغرب "خطوةً مرفوضةً لا تنسجم مع موقف الدعم الثابت والمشرّفِ للمغرب"، كما ذهبت الحركة بعيدا في "تحذير" المغرب "من خطورة التدابير المعلن عنها ومآلاتها السلبية"، ومن عناصر التهديد اختراق "المجتمع والدولة وتهديد تماسك النسيج المجتمعي واستقرار الوطن ووحدته". ودعت الحركة "الشعب المغربي وكافة القوى المجتمعية الحية للتكتل وتوحيد الجهود من أجل التصدي لخطر الاختراق الصهيوني ومناهضة كافة أشكال التطبيع".
جاء بلاغ الأمانة العامة للحزب، برئاسة سعد الدين العثماني، دبلوماسيا ومختلفا جدا عن البلاغ الذي أصدرته الأمانة العامة لحركة التوحيد والإصلاح
وإذا كان الخطاب المغربي الرسمي، ومعه أغلب مواقف القوى السياسية، لا يرى في ما قام به المغرب أي علاقة بتطبيع العلاقة مع دولة إسرائيل، وحصر خطوة البلاد في استئناف علاقة كانت موجودة منذ أوسلو 1993، عندما طلب الزعيم الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، من ملك المغرب الراحل، الحسن الثاني، فتح مكتب اتصال، فإن الحركة التي تشكل نسيجا دعويا يستند إليه الحزب الذي يقود الحكومة، سارت إلى ما ذهبت إليه مقوّمات الدعوة في الداخل وفي الخارج، ولم تختلف كثيرا عن شقيقتها اللدودة، جماعة العدل والإحسان، التي تعمل من خارج الحقل السياسي الشرعي والقانوني.
وفي المقابل، اكتفى الحزب، وهو يعد الامتداد السياسي والمؤسساتي للحركة في المغرب، بـ”التذكير بمواقف الحزب الثابتة من الاحتلال الصهيوني وما يقترفه ضد الشعب الفلسطيني من جرائم تقتيل وتشريد وعدوان على المقدسات"، والإعلان عن "ثقة الحزب في جلالة الملك" الذي ظل دوما مدافعا ثابتا ومناصرا للقضية الفلسطينية وللقدس الشريف الذي يرأس لجنتها. وعرفت المواقف بين الحركة والحزب تعاليق، بين الجدّي والسياسي المعلن، وبين التدوينات والمنشورات الإلكترونية، وهو أمر له أهميته في بلاد عرفت بالمسيرات المليونية لمناصرة الشعب الفلسطيني، وأيضا بمواقف الملك محمد السادس نفسه، والذي سبق أن أغلق مكتب الاتصال في 2002، عندما قمعت قوات الاحتلال الانتفاضة الثانية، وأيضا بمواقفه عند استقبال وزير خارجية أميركا، الجنرال كولن باول، في التوقيت نفسه، وقد علق على صدره شارة "كلنا فلسطينيون". وتداول المغاربة وقتها عبارة قيل إن الملك واجه بها باول: "ألم يكن جديرا بك أن تبدأ زيارتك من فلسطين؟". ودعاه صراحة إلى زيارة ياسر عرفات المحاصر وقتها، بيد أن العمق الآخر للموقفين، يتجلى في تقابل الدعوي والسياسي، وإكراهات الدولة وبلاغة الدعوة في مسيرة التيار الإسلامي في منعطفٍ حاسم، يسيل الكثير من المداد، ويثير مواقف كثيرة. وقد دار نقاش سياسي في هذا الأمر، بين الصريح والضمني، عن الخلفيات المتحكّمة في الموقف.
اكتفى حزب العدالة والتنمية، وهو الامتداد السياسي والمؤسساتي لحركة التوحيد والإصلاح بـ”التذكير بمواقف الحزب الثابتة من الاحتلال الصهيوني .."
ومن الأسئلة التي تواجه التيار الإسلامي ما قد تعنيه قضية الصحراء، والتي يعتبرها الحقل السياسي المغربي تكثيفا للوطنية المغربية، قضية مدعوّة إلى "التحيين" في كل لحظة، لا سيما في اللحظات الأكثر انعطافا، بل إن اللحظة الوطنية لدى القوة السياسية المهيكلة والمؤثثة للفضاء العمومي، منذ الاستقلال الوطني، مستمرة، ولا يمكن تجاوزها، على الرغم من كل المستجدّات، بالنسبة للقوى السياسية، فهذه اللحظة الوطنية تستمد جذورها من أمرين: أن العقل السياسي الذي حكم المغرب منذ 1944، وجمع الملكية والحركة الوطنية، ما زال ساري المفعول، على الأقل ما دامت قضية تحرير الأرض واستكمال تحريرها على جدول الأعمال الراهن. وأن الشق الثاني فيه محكوم بالالتزام به، لأنه يتعلق بدمقرطة شاملة للدولة وللمجتمع، واللحاق بالمنظومة الديمقراطية المتعارف عليها دوليا.. وعلى قاعدة هذا التعاقد، كانت كل العمليات الإصلاحية (في الصراع بين المعارضة وحكم الحسن الثاني، تأسيس الأحزاب والقوى المنبثقة عن الحركة الوطنية الكتلة الديمقراطية، رفض تدخل الدولة في المشهد الحزبي… إلخ)، تتم باستحضار هذا البعد التكويني في السياسة المغربية. وبوجود فاعلين سياسيين جدد، بدأ هذا التعاقد ينفتح على قوى سياسية جديدة، لم تكن شريكةً فيه، ولزمها الدخول من بوابة حركة رجل وطني، من قادة المقاومة وجيش التحرير، هو المرحوم عبد الكريم الخطيب، ما طبع وجودها في الحقل السياسي.
مال بنكيران إلى الحركة عوض الحزب في الموقف من العلاقات بين الرباط وتل أبيب، ودعا المغاربة إلى الخروج عن بكرة أبيهم لمناهضة التطبيع
وقد كان رئيس الحكومة السابق، الأمين العام السابق لحزب العدالة والتنمية، عبد الإله بنكيران، بوصفه مهندس التحولات الرئيسية في مسار التيار المؤسساتي للإسلام الحزبي، يعي ذلك. ولهذا ظل دوما يحذّر من وجود نزاع أو مناوشة بين هذا التيار والقصر الملكي أساسا، وإن كان مال إلى الحركة عوض الحزب في الموقف من العلاقات بين الرباط وتل أبيب، ودعا المغاربة إلى الخروج عن بكرة أبيهم لمناهضة التطبيع. وقد وردت قراءة موقف الحركة، الحاضنة، من هذه الزاوية، زاوية الانتماء إلى "السردية الوطنية" في السياسة القائمة الآن وعبر الزمن، ولا سيما عدم تقدير الموقف بالنسبة لقضية الصحراء التي يحصل حولها إجماع، وأيضا من خلال التردّد، في وضعها على قدم المساواة والتقدير، من زاوية القضية الوطنية بالنسبة للمغاربة.
صحيحٌ أن المغرب يضع قضية فلسطين وقضية الصحراء على قدم المساواة، وقد ذهب محمد السادس في اتصاله مع محمود عباس إلى القول إن الدفاع عن مغربية الصحراء لن يتم على حساب القضية الفلسطينية"، في ترابط يقل نموذجه في أي بلد عربي، مطالبا باستكمال تحرير أرضه والدفاع عن أرض العرب والمسلمين والأحرار في العالم. ولكن الطبقة السياسية المغربية، وقواعدها، سيما ذات الامتداد في الزمن التحرّري، لا ترى بعين الرضى مواقف حركة أنجبت تيارا سياسيا لا يشترك معها في المشترك الوطني، وقد آثرت إلى حد الساعة النقاش الهادئ بدون تبعات قاسية على الداخل، خصوصا وأن أي تناقضاتٍ جديدة، تنقل مشاحنات الوضع العربي العام إلى الداخل يمكن أن تكون لها آثار سلبية للغاية، وتنتج عنها حرابة لا تريدها الدولة ولا المجتمع. .. ويمكن أن ننتظر أن يؤثر ذلك في مستقبل التشكلات السياسية، في سنة انتخابية بامتياز، يمكن أن ينتج عنها مشهدٌ سياسيٌّ مبنيٌّ على المشترك الوطني، والتعاقد التأسيسي للوطنية المغربية الحديثة.
ولا بد من التنبيه أيضا إلى أن الحركة الوطنية المغربية، وما تفرّع عنها من مكونات سياسية وحزبية، كانت قد وجدت في السلفية الوطنية، بقيادة علال الفاسي ومحمد بلعربي العلوي وبوشعيب الدكالي والمختار السوسي، وغيرهم من شيوخ السلفية الوطنية المتنوّرة، ضد الزوايا والانغلاق الطرقي، موجهين وزعماء بنوا الأرضية الضرورية لهم، وهي نقطة تباين أساسية مع التيار الإسلامي الحركي في المغرب، الذي يجد في السلفية المشرقية والمودودي (نسبة إلى أبي الأعلى المودودي) والإخوانية، مرجعية وقراءة للوجود والعمل ومعنى الوطن. ووجود مرجعيتين من هذا النوع، بامتداداتهما التنظيمية والمؤسساتية، شيء يفترض قراءة جديدة لمستقبل الحقل السياسي برمته.