اليوم التالي واليوم السابق

20 ديسمبر 2023
+ الخط -

المجازر الإسرائيلية تتسابق في قطاع غزّة، بينما أميركا تفكّر، منذ بدأت الحرب، في اليوم الذي يلي انتهاء تلك الحرب. تفكّر به على طريقة بحث رجال أعمال انتهازيين عن الخراب لكي يبدأوا التخطيط باكراً لصفقات إعادة الإعمار وشراء الأراضي بأبخس الأثمان ثم إعادة بيعها أبراجاً ومشاريع سكنية وتجارية لاحقاً بأغلاها. مَن يجب أن يحكم القطاع بشكل يريحنا مجّاناً ومن دون أي مقابل سياسي، من صداع اسمه القضية الفلسطينية؟ كم يجب أن تكون حصّة القوى المحلية في مشهد اليوم التالي لغزّة، وما حصّة البلدان العربية المعنية بهذا النوع من التجارب الانتحارية؟ هل يمكن تطعيم سلطة الغد بمنشقّين عن حركة حماس تكون لديهم حيثية شعبية معقولة؟ مَن يعيد الإعمار وبأي ثمن سياسي؟ العرب طبعاً، ولكن هل يتجرّأون على وضع أي شرط على أميركا وإسرائيل هذه المرّة بعدما فوّتوا على أنفسهم فرصة فرض أنفسهم لاعباً وازناً في الحرب وفي السلم من خلال اكتفائهم بموقع المتفرّج على المجزرة؟ هل يكفي "تنشيط" السلطة الفلسطينية وفق مصطلحات من كتب مقال جو بايدن في "واشنطن بوست" لكي تصبح قادرة على حكم القطاع وتوفير الأمن لإسرائيل بنسخة محدثة من التنسيق الأمني المعمول به في الضفة الغربية، من دون دولة فلسطينية حقيقية على حدود 1967، ولا دولة واحدة ديمقراطية علمانية لجميع مواطنيها في فلسطين التاريخية؟ عشرات الأسئلة تتوالد في رؤوس المسؤولين الأميركيين وتثير حسداً أو خشية عند أطراف فلسطينية وعربية حسب موقفها من التحالف العربي ــ الإسرائيلي الذي تريد واشنطن إرساءه في المنطقة. والحال أن أحداً لا يملك جواباً عن أي سؤال يتعلق باليوم التالي وبمشهده السياسي. لا أميركا ولا إسرائيل ولا الفلسطينيون ولا العواصم العربية ولا طبعاً أوروبا، بمختلف حساسياتها تجاه القضية الفلسطينية. السلام الحقيقي على أساس الدولة الواحدة أو الدولتين غير مطروح لا بخطّة اليوم التالي، ولا كانت واردة في اليوم السابق، إذاً يُفضّل الابتعاد عن الضرب بالرمل والتبصير، والتعويل على تغيّر في المزاج الفاشي الحربي داخل إسرائيل، وعلى أعجوبة أن يقتنع جو بايدن بأن عليه إيقاف المذبحة، احتراماً لنفسه أولاً من تطاول حكام تل أبيب عليه منذ كان نائباً لباراك أوباما، واحتراماً لبلده الذي صار يصعب إحصاء كم الإهانات الإسرائيلية الموجهة له، ولعله بذلك يحتفظ بأمل ضئيل بأن يصوّت له أكثر من 17% من الأميركيين العرب في انتخابات 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024. 
فلننسَ كل الاعتبارات الإنسانية والسياسية والأخلاقية والمصلحية، مصلحة أميركا التي تفرض منطقياً موقفاً أميركياً مختلفاً عن ذلك التبنّي الأميركي القَبلي لإسرائيل منذ حرب 1967 على قاعدة "مع إسرائيل ظالمة أم مظلومة". فلننسَ ذلك، ألا يشعر بايدن ومساعدوه الكثر ومسؤولو أجهزة استخباراته ووزراؤه وزوجته وأولاده بالإهانة عندما يسمعون ردود الفعل الإسرائيلية في كل مرّة ينطق بها مسؤول أميركي بنقد ولو ناعما وخجولا لإرهاب المستوطنين مثلاً، أو حين يقول بايدن إن حكومة إسرائيل الحالية هي الأكثر تطرّفاً في تاريخ هذه الدولة؟ لماذا الحميّة عند المسؤولين الأميركيين تبقى مستنفرة إلا حين تتعرّض الكرامة لخدش من إسرائيلي؟ أليس لدى جو بايدن شاشة تلفزيون في مكتبه وبيوته لكي يخجل قليلاً ويخفّف من الهذيان في كل مرّة يتحدث فيها عن الحرب بهذه الدرجة من الصلافة والعجرفة وقلة الأخلاق؟ طيّب، إن كانت الحالة الصحية تعيق وعي بايدن حقيقة ما يجري، فماذا عن الآخرين من حوله؟ 
الانتقال إلى اليوم التالي يُفترض أن يكون مطلباً عالمياً لا يقتصر على مذبحة غزّة. يوم تالٍ لا نعود مضطرّين فيه إلى سماع غزل أنتوني بلينكن في حفلة الدم الإسرائيلية، واكتشاف عبد الفتاح السيسي، بعد 73 يوماً من الحرب على غزّة، أن ما يجري هناك خطير على الأمن القومي المصري. ربما في اليوم التالي، يتوقّف المفاجأون عن المفاجأة من صمت بشّار الأسد عن المقتلة الفلسطينية، لأن بشّاراً صامتاً وغير موجود هو أحد شروط يوم تالٍ أفضل.