12 اغسطس 2018
اليسار التونسي والسعي إلى الحكم
قد يستدعي ما جرى في مؤتمر حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد، والذي أسسه الراحل، شكري بلعيد، أخيراً في ضاحية قمرت من العاصمة التونسية، الحديث عن اليسار التونسي، وطرح سؤالٍ يتعلق بإمكانية تحوله إلى حزب حاكم، حين وضعت عملية انتخاب هياكل الحزب الأصبع على وهن داخل الجبهة الشعبية، يتعلق بدمقرطة هياكلها. وهذا ما عبّر عنه النائب، والقيادي البارز في حزب الوطنيين الديمقراطيين، المنجي الرحوي، حين استغرب من عدم وجود هياكل ديمقراطية داخل الجبهة الشعبية، وطرح مسألةً جوهرية تتعلق بدمقرطة هياكل الجبهة الشعبية، عبر تنظيم انتخاب الهياكل الجهوية والمركزية في داخلها، لأن الجبهة ليست تنظيمًا ديمقراطيًا. فقد انتقد الرحوي أداء الجبهة، وتحديداً طريقة إدارتها وطبيعة خطابها الذي يروّجه ناطقها الرسمي، حمّة الهمامي، حين قال إنّ رصيد الأخير تآكل، بسبب تكراره الخطاب نفسه منذ سنوات، متسائلاً: هل سيصوّت له الـ 250 ألف ناخب الذين منحوه أصواتهم مجدّدا؟ كما طالب قياديي الجبهة بتنمية رصيدهم، لأنّه ليس من سياسي منغلق يرفض النقاشات يستطيع النجاح.
لكن، والحق يقال، لا تتعلق البنية غير الديمقراطية بالجبهة الشعبية وقياداتها، بل بالحزب نفسه الذي ينتمي إليه منجي الرحوي، الوطنيين الديمقراطيين الموحد، فهو حزب غير وفي لنهج مؤسسه، شكري بلعيد، في ما يتعلق بنضاله من أجل بناء الحزب اليساري الكبير، وهو حزبٌ أيضا ستاليني، تهيمن عليه عقلية فلاحية محافظة، لا يمارس الديمقراطية في داخل هياكله، إذ يعيد إنتاج قياداته، وهو ما تجلى في مؤتمره أخيراً (من 3 إلى 5 سبتمبر/ أيلول 2016)، مما يعني أن الأزمة الهيكلية لا تتعلق بالجبهة وحدها، بقدر ما ترتبط ببنية الأحزاب التي تتشكّل منها.
باستثناء هذا النقد للبنية التنظيمية والسياسية غير الديمقراطية للجبهة الشعبية، التي أخفقت في إعادة تطوير خطابها، ومجاوزة إرثها الإيديولوجي المتكلس، ورؤيتها للمشهد السياسي، من خلال ثنائية الصراع يسار/ نهضة، وهو أمرٌ لم يعد مقنعاً في الشارع، ولا يقدّم حلولاً واقعيةً وفعليةً للمشكلات اليومية للناس، فإن المؤتمر الأخير لحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد تجاهل كلياً موضوع بناء الحزب اليساري الكبير، أو الحزب اليساري الموحّد، الذي طرحه بلعيد سنة 2011، عقب إخفاق التنظيمات والأحزاب اليسارية الراديكالية في أول انتخابات ديمقراطية تشهدها البلاد، بعد سقوط النظام الديكتاتوري السابق في 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2011، فقد اعتبرت مبادرة بلعيد، في حينها، قادرةً على إيجاد أداة سياسية، يمكن أن تدفع في اتجاه نجاح مسارات الثورة، وتحقيق العدالة الاجتماعية، والقضاء على الفوارق والتمييز بين الجهات والفئات. وتمّ تأسيس الجبهة الشعبية سنة 2012، بعد فشل تجربة دخول انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في أكتوبر/ تشرين الأول 2011، في حالة تشتتٍ وتفرقة. وكانت تجربة الجبهة الشعبية جبهويةً، وليست حزبيةً بمعنى أنها تضم أحزاباً وأطرافاً وشخصياتٍ مختلفة، لكنها تشترك، في حدّ أدنى سياسي وفكري. لذلك ضمت أطرافا قومية ناصرية تقدمية، وأطرافا بعثية ويسارية وشخصيات تقدمية وديمقراطية.
في طبائع اليسار التونسي
لا يتجسّد مفهوم اليسار التونسي في حزب سياسي معين، متماسك في بنيته الأيديولوجية
والتنظيمية والسياسية، وفقاً للتعريف الماركسي التقليدي. ولهذا السبب، ومن أجل رفع الالتباس، نقول إن مفهوم اليسار التونسي، الذي نعنيه، هو الذي يمثل طيفًا كاملاً من الأحزاب اليسارية، التي تتبنى الفكر الماركسي، ولديها ارتباط وثيق بالشيوعية، وكذلك أحزاب اليسار القومي، من بداياته اليوسفية، إلى امتداداته الناصرية والبعثية فيما بعد (ارتبط حديثه عن الاشتراكية بالعلاقة التي كانت تجمعه بالاتحاد السوفييتي). ونجد هذه الأحزاب منضويةً في إطار الجبهة الشعبية، باستثناء حزب المسار الاجتماعي الديمقراطي (الحزب الشيوعي سابقا)، والحزب الجمهوري (الديمقراطي التقدمي سابقا، وهو حزب وسطي متموقع بين تطرّفي الأحزاب الدينية والأحزاب الماركسية)، وكذلك الأشخاص الماركسيين المستقلين المناضلين في سبيل حقوق الإنسان، والمنضمين في إطار منظمات المجتمع المدني والنقابات العمالية. فلدى هؤلاء جميعاً توجّهات تقدمية. بمعنى آخر، هم مع الحداثة والعلمانية والمساواة التامة بين المرأة والرجل، ومع تحقيق العدالة الاجتماعية، ويناهضون، في الوقت نفسه، الهيمنة الإمبريالية الغربية، وينادون بتحرير فلسطين من الاحتلال الاستيطاني الصهيوني، ويدافعون عن السيادة الوطنية.
وعلى الرغم من هذا الكم الهائل من التنظيمات والأحزاب اليسارية في تونس، يكتشف من يدرس تاريخها أنها متموقعة ضمن القوى الاحتجاجية السياسية والاجتماعية والتخندق المطلق في صفوف المعارضة الراديكالية، رافضة "الإقلاع" من إرهاصات الإيديولوجيات، باتجاه بلورة رؤية سياسية جديدة، تحشد القوى في إطار بناء حزب يساري كبير، ينشد الحكم، على الرغم من التجربة النضالية العريقة في تونس التي كثيرًا ما راهنت على التحديث السياسي والاجتماعي، وفتحت الآفاق، ولو نسبيًا، أمام الفكر الليبرالي، على حساب الفكر التقليدي المشدود إلى منطق المحافظة. فالجبهة الشعبية مطالبةٌ، اليوم، بأن تقوم بمراجعة نقدية لتجربتها السابقة، وأن تعمل على تعميم القيم والأفكار والمفاهيم الديمقراطية الحديثة بين مكوناتها، وأن تعيد الاعتبار لإعادة بناء الحزب اليساري الكبير الذي يجمع مختلف أطراف اليسار التعدّدي في تونس، بوصفه مسألة حيوية في تحديد مسار الثورة التونسية، وفي تحديد خياراتها التنموية. وعلى الرغم من إصرار قيادات اليسار التونسي، وحتى قواعده، على نظافة يدهم، وعدم انخراطهم في أي تفاهماتٍ سياسيةٍ تتناقض مع أفكارهم، وخصوصاً الموقف الواضح من التيار الإسلامي في تونس، ممثلا في حركة النهضة، فإن التفاهمات التي يصفها بعضهم بأنها كانت سطحية مع حزب نداء تونس، في مرحلة ما باتت اليوم من النقاط التي يذهب إليها مراقبون في تقييم النهج السياسي، خصوصاً للجبهة الشعبية، حيث يرى بعضهم أن ذلك يعكس واحداً من وجوه التناقض، داخل هذا الطيف السياسي الذي قد يقدم تنازلاتٍ، وإن كانت دنيا، مع طرفٍ سياسيٍّ، لا ينسجم ورؤاه السياسية.
ولهذا، يعبر الحزب اليساري الكبيرالمطلوب إعادة بنائه عن طليعة الأنتلجنسيا، والطبقة المتوسطة، والعمال والفلاحين أولاً، وهو قوة جديدة من بين قوى متعدّدة، ينظم ما يستطيع تنظيمه من الشعب، ويشارك في الحركة السياسية، ويعمل من أجل إعادة بناء الجبهة الشعبية، وتطوير النقابات، وتكوين المنظمات الشعبية، ويخوض النضال الديمقراطي السلمي، إلى جانب القوى السياسية الأخرى، حليفاً أميناً، ومناضلاً صدوقاً لا يتردّد، ولا يكلّ ثانياً. فما هي مهام الحزب اليساري في مجتمعٍ مستمر في إنجاز ثورته الديمقراطية؟
إنجاز قطيعة منهجية مع التقليد، إنّها قطيعة مع الوعي المتأخر والمتخلف والمستلب، وليست
قطيعة مع التاريخ، أو التراث أو الهوية، ولا هي قطيعة مع الشعب. إنها قطيعة اليسارالتونسي (حركة الوطنيين الديمقراطيين في شتّى تنظيماتها ومدارسها، وحزب العمال التونسي) مع المرجعية التقليدية لليسار، ثورة أكتوبر البلشفيّة في 1917، كأهمّ لحظاتها التأسيسيّة. فلماذا لا يزال اليسار التونسي الراهن يختار موروث الحرب الباردة للحظته التأسيسيّة لما تسمى الجبهة الشعبية، لا سيما أنّ المقولات الأيديولوجية والسياسية التي ارتبطت بالاشتراكية العلمية، والاتحاد السوفييتي، وأطروحات الثورات الوطنية الديمقراطية في العالم الثالث، خلال زمن الحرب الباردة، صارت خبراً للتاريخ، مع انتصار إيديولوجيا النيوليبرالية؟، فما هي مهمة المرحلة الجديدة، وما هي خصائصها؟
بقي اليسارالتونسي سنواتٍ طويلة في موقع المعارضة، لكن المسار الثوري مفتوح ليكون اليوم في موقع الحكم. لكن، تبقى الأسئلة القائمة: هل يمكن فعلاً لهذه التصورات اليسارية أن ترى النور في تونس؟ وهل بلغ هذا التيار النضج الكافي الذي يجعله يتعظ مما وقعت فيه الأحزاب السابقة؟ وهل هناك ما يدعم نجاح هذا المشروع، على المستويين، الداخلي والخارجي، أيضا؟
أسباب امتناع البديل الثالث
تعرف الأطراف السياسية الفاعلة في تونس أن اليسار التونسي، لا سيما المتمثل في الجبهة الشعبية، لا يمكن أن يشكل البديل الثالث في تونس، للأسباب التالية:
أولا، تملك الجبهة الشعبية بعض أوراق القوة التي لا يمكن التغاضي عنها، سواء على مستوى ثقل النقابات، أو منظمات المجتمع المدني المنضوية تحت لوائها، فضلا عن تمثيليتها من خلال 15 نائباً داخل مجلس نواب الشعب، إلا أنها تبدو، حسب المتابعين، في وضع يفيد بأنها لا تحسن استخدام أوراقها. ويعيد بعضهم ذلك إلى الخليط الحزبي غير المتجانس، أحياناً، داخل الجبهة، وتأثيراته الكبرى على مستوى التنظيم، وحتى على مستوى القرار.
ثانياً، لا تزال قواعد اليسار التونسي متشدّدة في مبادئها، وهي حتماً لن تتفق مع قيادات الجبهة الشعبية في حال قرّرت تغيير بعض أسسها، كمسألة رفض المديونية وغيرها. وهذا يتطلب جهودًا كبرى من قيادات اليسار التي ستكون أمام مهمة إقناع قواعدها بضرورة تعديل المسائل المتجذّرة داخلهم، وهذا يحتاج وقتاً طويلاً.
ثالثاً، الجبهة الشعبية، بتكويناتها اليسارية والقومية الحالية، عاجزة عن أن تتحول إلى تنظيم
حقيقي فاعل ومهيكل، من جهة. وهي ليست قادرةً على تطوير خطابها السياسي والإيديولوجي والإعلامي، بسبب حالة التصلب الإيديولوجي، والخطاب المتكلس الذي تقدمه للناس، على لسان ناطقها الرسمي حمّة الهمامي، من جهة أخرى. فلا تزال الجبهة غير قادرةٍ على التَحَرُّرِ مِنَ الإِرْثِ الستالِينِي الذي رافقها طوال مرحلة الحرب الباردة، إذ لا تزال الشعارات عينها تقريبا والخطاب عينه يتكرّران بالطريقة المحافظة نفسها. ففي عصر العولمة الليبرالية، وانتقال العالم، بعد نهاية الحرب الباردة، وسقوط المنظومة السوفييتية السابقة، وانتقال العالم إلى المرحلة الثالثة من انتشار الديمقراطية على صعيد كوني، وبروز المجتمع المدني محوراً فاعلاً في الانتقال الديمقراطي، لا يمكن أن تعالج القضايا المطروحة على البلدان النامية بمجموعةٍ من الخطابات القديمة والمحافظة، وبمجموعة من الحلول التي صارت، بالحد الأدنى، غير متلائمة مع الأوضاع الجديدة التي يعيشها عالمنا المعاصر.. فاليوم دخلت المجتمعات، في تونس وكل الدول، مرحلة جديدة، وأصبحت هناك إمكانيات عمل سياسي، مختلفة عن الوسائل التقليدية التي تم تكريسها طوال القرنين الماضيين بوجه خاص، حيث أكّدت الأحداث التي جدّت في تونس، وبعض البلدان العربية الأخرى، والتي تمت من دون قيادة الأحزاب الإيديولوجية المعروفة، أنه صار بالإمكان التنظم خارج الأطر الحزبية اليسارية التقليدية، وأن الشعوب أمست مهيأة للحراك الاجتماعي و السياسي، من دون الحاجة إلى هياكل حزبية تقليدية.
رابعاً، يصطدم طرح الجبهة الشعبية استلام السلطة، مع بداية 2016، بموقف الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، والدول الإقليمية الصديقة لتونس، المعادية تاريخياً للفكر الماركسي منذ بداية الحرب الباردة، وهذه القوى الدولية والإقليمية ترفض أن تكون تونس تحت سلطةٍ يسارية، لأن هذه الأطراف تعمل بموجب استراتيجيات طويلة المدى، وهي من تخلق الأحداث أيضاً. ومن المؤكد أنها تملك من الخطط ما يجعلها تمنع وصول اليسار الماركسي إلى الحكم بأية طريقة. ولعل تحالف "نداء تونس" وحركة النهضة أبرز دليل على ذلك.
لكن، والحق يقال، لا تتعلق البنية غير الديمقراطية بالجبهة الشعبية وقياداتها، بل بالحزب نفسه الذي ينتمي إليه منجي الرحوي، الوطنيين الديمقراطيين الموحد، فهو حزب غير وفي لنهج مؤسسه، شكري بلعيد، في ما يتعلق بنضاله من أجل بناء الحزب اليساري الكبير، وهو حزبٌ أيضا ستاليني، تهيمن عليه عقلية فلاحية محافظة، لا يمارس الديمقراطية في داخل هياكله، إذ يعيد إنتاج قياداته، وهو ما تجلى في مؤتمره أخيراً (من 3 إلى 5 سبتمبر/ أيلول 2016)، مما يعني أن الأزمة الهيكلية لا تتعلق بالجبهة وحدها، بقدر ما ترتبط ببنية الأحزاب التي تتشكّل منها.
باستثناء هذا النقد للبنية التنظيمية والسياسية غير الديمقراطية للجبهة الشعبية، التي أخفقت في إعادة تطوير خطابها، ومجاوزة إرثها الإيديولوجي المتكلس، ورؤيتها للمشهد السياسي، من خلال ثنائية الصراع يسار/ نهضة، وهو أمرٌ لم يعد مقنعاً في الشارع، ولا يقدّم حلولاً واقعيةً وفعليةً للمشكلات اليومية للناس، فإن المؤتمر الأخير لحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد تجاهل كلياً موضوع بناء الحزب اليساري الكبير، أو الحزب اليساري الموحّد، الذي طرحه بلعيد سنة 2011، عقب إخفاق التنظيمات والأحزاب اليسارية الراديكالية في أول انتخابات ديمقراطية تشهدها البلاد، بعد سقوط النظام الديكتاتوري السابق في 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2011، فقد اعتبرت مبادرة بلعيد، في حينها، قادرةً على إيجاد أداة سياسية، يمكن أن تدفع في اتجاه نجاح مسارات الثورة، وتحقيق العدالة الاجتماعية، والقضاء على الفوارق والتمييز بين الجهات والفئات. وتمّ تأسيس الجبهة الشعبية سنة 2012، بعد فشل تجربة دخول انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في أكتوبر/ تشرين الأول 2011، في حالة تشتتٍ وتفرقة. وكانت تجربة الجبهة الشعبية جبهويةً، وليست حزبيةً بمعنى أنها تضم أحزاباً وأطرافاً وشخصياتٍ مختلفة، لكنها تشترك، في حدّ أدنى سياسي وفكري. لذلك ضمت أطرافا قومية ناصرية تقدمية، وأطرافا بعثية ويسارية وشخصيات تقدمية وديمقراطية.
في طبائع اليسار التونسي
لا يتجسّد مفهوم اليسار التونسي في حزب سياسي معين، متماسك في بنيته الأيديولوجية
وعلى الرغم من هذا الكم الهائل من التنظيمات والأحزاب اليسارية في تونس، يكتشف من يدرس تاريخها أنها متموقعة ضمن القوى الاحتجاجية السياسية والاجتماعية والتخندق المطلق في صفوف المعارضة الراديكالية، رافضة "الإقلاع" من إرهاصات الإيديولوجيات، باتجاه بلورة رؤية سياسية جديدة، تحشد القوى في إطار بناء حزب يساري كبير، ينشد الحكم، على الرغم من التجربة النضالية العريقة في تونس التي كثيرًا ما راهنت على التحديث السياسي والاجتماعي، وفتحت الآفاق، ولو نسبيًا، أمام الفكر الليبرالي، على حساب الفكر التقليدي المشدود إلى منطق المحافظة. فالجبهة الشعبية مطالبةٌ، اليوم، بأن تقوم بمراجعة نقدية لتجربتها السابقة، وأن تعمل على تعميم القيم والأفكار والمفاهيم الديمقراطية الحديثة بين مكوناتها، وأن تعيد الاعتبار لإعادة بناء الحزب اليساري الكبير الذي يجمع مختلف أطراف اليسار التعدّدي في تونس، بوصفه مسألة حيوية في تحديد مسار الثورة التونسية، وفي تحديد خياراتها التنموية. وعلى الرغم من إصرار قيادات اليسار التونسي، وحتى قواعده، على نظافة يدهم، وعدم انخراطهم في أي تفاهماتٍ سياسيةٍ تتناقض مع أفكارهم، وخصوصاً الموقف الواضح من التيار الإسلامي في تونس، ممثلا في حركة النهضة، فإن التفاهمات التي يصفها بعضهم بأنها كانت سطحية مع حزب نداء تونس، في مرحلة ما باتت اليوم من النقاط التي يذهب إليها مراقبون في تقييم النهج السياسي، خصوصاً للجبهة الشعبية، حيث يرى بعضهم أن ذلك يعكس واحداً من وجوه التناقض، داخل هذا الطيف السياسي الذي قد يقدم تنازلاتٍ، وإن كانت دنيا، مع طرفٍ سياسيٍّ، لا ينسجم ورؤاه السياسية.
ولهذا، يعبر الحزب اليساري الكبيرالمطلوب إعادة بنائه عن طليعة الأنتلجنسيا، والطبقة المتوسطة، والعمال والفلاحين أولاً، وهو قوة جديدة من بين قوى متعدّدة، ينظم ما يستطيع تنظيمه من الشعب، ويشارك في الحركة السياسية، ويعمل من أجل إعادة بناء الجبهة الشعبية، وتطوير النقابات، وتكوين المنظمات الشعبية، ويخوض النضال الديمقراطي السلمي، إلى جانب القوى السياسية الأخرى، حليفاً أميناً، ومناضلاً صدوقاً لا يتردّد، ولا يكلّ ثانياً. فما هي مهام الحزب اليساري في مجتمعٍ مستمر في إنجاز ثورته الديمقراطية؟
إنجاز قطيعة منهجية مع التقليد، إنّها قطيعة مع الوعي المتأخر والمتخلف والمستلب، وليست
بقي اليسارالتونسي سنواتٍ طويلة في موقع المعارضة، لكن المسار الثوري مفتوح ليكون اليوم في موقع الحكم. لكن، تبقى الأسئلة القائمة: هل يمكن فعلاً لهذه التصورات اليسارية أن ترى النور في تونس؟ وهل بلغ هذا التيار النضج الكافي الذي يجعله يتعظ مما وقعت فيه الأحزاب السابقة؟ وهل هناك ما يدعم نجاح هذا المشروع، على المستويين، الداخلي والخارجي، أيضا؟
أسباب امتناع البديل الثالث
تعرف الأطراف السياسية الفاعلة في تونس أن اليسار التونسي، لا سيما المتمثل في الجبهة الشعبية، لا يمكن أن يشكل البديل الثالث في تونس، للأسباب التالية:
أولا، تملك الجبهة الشعبية بعض أوراق القوة التي لا يمكن التغاضي عنها، سواء على مستوى ثقل النقابات، أو منظمات المجتمع المدني المنضوية تحت لوائها، فضلا عن تمثيليتها من خلال 15 نائباً داخل مجلس نواب الشعب، إلا أنها تبدو، حسب المتابعين، في وضع يفيد بأنها لا تحسن استخدام أوراقها. ويعيد بعضهم ذلك إلى الخليط الحزبي غير المتجانس، أحياناً، داخل الجبهة، وتأثيراته الكبرى على مستوى التنظيم، وحتى على مستوى القرار.
ثانياً، لا تزال قواعد اليسار التونسي متشدّدة في مبادئها، وهي حتماً لن تتفق مع قيادات الجبهة الشعبية في حال قرّرت تغيير بعض أسسها، كمسألة رفض المديونية وغيرها. وهذا يتطلب جهودًا كبرى من قيادات اليسار التي ستكون أمام مهمة إقناع قواعدها بضرورة تعديل المسائل المتجذّرة داخلهم، وهذا يحتاج وقتاً طويلاً.
ثالثاً، الجبهة الشعبية، بتكويناتها اليسارية والقومية الحالية، عاجزة عن أن تتحول إلى تنظيم
رابعاً، يصطدم طرح الجبهة الشعبية استلام السلطة، مع بداية 2016، بموقف الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، والدول الإقليمية الصديقة لتونس، المعادية تاريخياً للفكر الماركسي منذ بداية الحرب الباردة، وهذه القوى الدولية والإقليمية ترفض أن تكون تونس تحت سلطةٍ يسارية، لأن هذه الأطراف تعمل بموجب استراتيجيات طويلة المدى، وهي من تخلق الأحداث أيضاً. ومن المؤكد أنها تملك من الخطط ما يجعلها تمنع وصول اليسار الماركسي إلى الحكم بأية طريقة. ولعل تحالف "نداء تونس" وحركة النهضة أبرز دليل على ذلك.