الهجوم على القاعدة الأميركية... وقواعد اللعبة الإقليمية
لم تتضح بعد تفاصيل هجوم مسيّرة على قاعدة أميركية على الحدود الأردنية السورية، الواضح حتى اللحظة أن الخسائر الأميركية ثلاثة عسكريين قتلى و30 جريحاً، في حين ما زال اللغط والجدل محتدماً إعلامياً وسياسياً في تعريف موقع البرج 22 الذي جرى استهدافه، بشأن ما إذا كان على الحدود الأردنية - السورية، أم داخل الأراضي الأردنية أم السورية!
السؤال الأكثر أهمية الآن عمّا إذا كان هذا الهجوم سيعتبر بمثابة متغير جوهري (Game Changer) في انتشار الصراع إقليمياً أم أنّه تكتيكي مرتفع المستوى مقارنةً بالأحداث السابقة؟ سيرتبط الجواب بالردود المتتالية؛ ما إذا كانت ستأخذ طابعاً تكتيكياً، مثلما حدث سابقاً، أي أن تقوم القوات الأميركية، على سبيل المثال، بردود فعل تستهدف المليشيات العسكرية الموالية لإيران (باتت تطلق على نفسها المقاومة الإسلامية في العراق) في سورية أو في الداخل العراقي أم أنّ رد الفعل الأميركي هذه المرّة سيتجه إلى توجيه ضربة مباشرة لإيران؛ وهذا بطبيعة الحال سيؤدّي إلى ردود فعل أخرى أكبر ستحدّد طبيعتها منحنيات تطوّر الصراع العسكري لاحقاً. من الصعوبة حسم الجواب على السؤال السابق، لكن الاحتمالان قائمان في قراءة أولية؛ والهجوم عقّد مواقف الأطراف الرئيسية المعنية بالموضوع ووضعهم على حافّة قراراتٍ خطيرة.
بالنسبة للإدارة الأميركية، من الواضح أنّها لا ترغب بتطوّر الصراع واتخاذه طابعاً إقليمياً، وعملت جاهدة على بعث رسائل متعدّدة بأهمية "عدم توسيع رقعة الصراع"، وعملت على ضبط الأطراف المعنيّة، خصوصاً ما يتعلق بجبهة حزب الله - إسرائيل، وحتى في مستوى الردود التكتيكية على "التحدّي الحوثي" في البحر الأحمر، غير أنه يصعب، هذه المرّة، تصوّر ردود مشابهة، بخاصة في خضم الحملات الانتخابية وتصاعد المزايدات السياسية في واشنطن، والصورة المهزوزة للرئيس جو بايدين، فمن المؤكّد أن التفكير سيكون بأهدافٍ مؤلمةٍ أكثر واستراتيجية أكبر، لكن ليس واضحاً ما إذا كانت طهران نفسها ستكون هدفاً، ما يغيّر قواعد اللعبة بدرجة أكبر أم ستكتفي بضربات قاسية للمليشيات واصطياد قيادات فيلق القدس!
فوجئ الأردن بتصعيد على حدوده الشمالية لحرب المخدرات والتهريب، ودخل الجيش بمواجهات غير مسبوقة مع تجار المخدرات
على الطرف الآخر، أظهرت إيران أنّها هي الأخرى تتجنّب الانزلاق إلى مواجهة شاملة وكبيرة مع الولايات المتحدة، واستعاضت عن ذلك بحروب الوكالة والاشتباكات المحدودة والمشاغلة والمشاغبة، لكن السؤال: هل تعتبر طهران ما حدث جزءاً من التكتيكات التي تقوم بها على هامش حرب غزة أو ما يسمّى "ساحات الإسناد" أم أنّه ردّ على قتل قيادات إيرانية عسكرية وأمنية بارزة، بخاصة في سورية قبل أيام؟ وهل لدى طهران مخطّط واضح في حال تعرّضت لضربة أميركية بالرد مباشرةً، ما يشعل المنطقة، أم أنّها ستقوم بردود فعل إقليمية وتسخين أكبر وتتجنّب الدخول في مواجهة كبرى كأن توجّه ضرباتٍ أقوى للوجود العسكري الأميركي. وفي كلّ الحالات، من المستبعد أن تطوّر طهران ردّها ليصل إلى استهداف إسرائيل، إلّا إذا بدأت الأخيرة الضربات العسكرية؟!
يقف الأردن في موقف محرجٍ ومربك، فقد اتّخذ مواقف واضحة حاسمة، واعتمد ديبلوماسية تصعيدية غير مسبوقة ضد الحرب الإسرائيلية على غزّة، وشهدت علاقته بتل أبيب توتّراً غير مسبوق، إلا أنّه فوجئ بتصعيد على حدوده الشمالية لحرب المخدّرات والتهريب، ودخل الجيش بمواجهات غير مسبوقة مع تجّار المخدّرات، ومن المعروف أنّ هنالك نفوذاً إيرانياً على الحدود مع سورية، وأنّ هذه التجارة شبكة إقليميةٍ ترتبط بالمليشيات الموالية لطهران، وتمثل مصدراً مهماً لاقتصاد بديل في مواجهة العقوبات الأميركية.
يأتي هذا الهجوم ليضع الموقف الأردني بين حدّين متناقضين في حسابات الأمن القومي؛ الأول تهديد الحكومة اليمينية المتطرّفة في تل أبيب وتوجّهاتها الخطيرة، التي ينظر إليها الأردن بريبة وقلق، والثاني الأمن على الحدود الشمالية والقلق من تصاعد التوتر والهجمات المتبادلة بما يضعه في مواجهة مع حلفاء إيران، الذين يستخدمون دعاية ضد إسرائيل وأميركا الداعم الأكبر لها، والتي وصلت سمعتها وصورتها لدى الرأي العام العربي، بخاصة الأردني، إلى درجة غير مسبوقة من الاستياء، وبوصفها مصدر التهديد الأول للأمن الإقليمي، كما أظهر استطلاع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات أخيراً.
ستُرسم المرحلة المقبلة على وقْع عمليات تبادل الرسائل الصادرة عن الأطراف المختلفة ومحاولات الاحتواء والوسطاء
قبل أسابيع قليلة، سرّبت مصادر مقرّبة مما يسمّى حلف الممانعة أنّ المواجهات على الحدود الشمالية الأردنية ليست اعتباطية أو أمنية فقط، بل هي قرار سياسي إيراني بإشغال القواعد الأميركية والغربية على الحدود الأردنية - السورية، ومعروفٌ أنّ طهران تنظر إلى الأردن بوصفه خندقاً معادياً متقدّماً، ولا تستبعد الأردن ضمن قائمة الأهداف في حال حدثت مواجهات كبيرة، الأمر الذي يتطلب تفحّصاً ودراسة متأنيّة لتأطير إحداثيات الموقف الأردني خلال المرحلة المقبلة، والرسائل الأردنية في تعريف ما حدث وقراءته ضمن حسابات الأمن القومي.
لا تقلّ تعقيدات الموقف بالنسبة لكل من الحكومة العراقية والرئيس السوري بشّار الأسد، فالطرفان، بالرغم من تحالفهما مع طهران، لا يرغبان بالدخول إلى حلبة الصراع، ويتجنّبان ذلك منذ البداية، ولديهم حساباتٌ مختلفةٌ تماماً عن طهران، وهي حال الحكومة اللبنانية التي تسعى إلى الضغط المستمر على حزب الله لعدم التورّط بصورة استراتيجية في الحرب الحالية.
ستُرسم المرحلة المقبلة على وقْع عمليات تبادل الرسائل الصادرة عن الأطراف المختلفة ومحاولات الاحتواء والوسطاء؛ بالرغم من وجود ميكانزماتٍ قويةٍ تقف أمام التحوّل إلى صراع إقليمي، فإنّ تدحرج ردود الفعل الكمّية قد يؤدّي إلى ما تسمّى نقطة التحوّل (Tipping Point)، أي أنّ الجميع ينزلق إلى صراع إقليمي له حسابات استراتيجية أعلى مستوى من المرحلة السابقة بأسرها.