النيوزيلندية التي تزوّجت بدوياً
نادراً ما تُصادِف في الدكاكين، في المواقع الأثرية في المدن العربية ذات الجاذبيّة السياحية، كتباً بالعربية عن المكان الذي أنت فيه، وعن تاريخه. تلقاها قليلةً بين التذكارات والألبسة الخفيفة منوّعة الألوان والقبّعات والمسابح والقلائد والنحاسّيات والأواني والمجسّمات والأشكال الخشبيّة والمصنوعات اليدوية، وغير ذلك من مشغولاتٍ جذّابةٍ تُغري بالشراء (الأسعار مرتفعة والمفاصلة مع البائع تحتاج خبرةً خاصّة). بين هذه كلها كتبٌ، بالانكليزية غالباً في المشرق، وبالفرنسية في المغارب، مندسّةٌ بين هذه الأشياء، قليلة، تُفصح عن تجاريّتها، بورقها المصقول غالباً، وبالصور الملوّنة فيها. كتبٌ تُشعرِك بأنك عابرٌ وحسب، لن تكترث بها، ولا تفترضُ أن فيها ما قد يُسعفك بالمعرفة التي تُريد، سيّما إذا كنتَ مُتطلباً في ما تقرأ وما لا تقرأ. وإذا تصفّحتَ واحداً من هذه الكتب المعدودة، إذا كان بالعربية خصوصاً، لفضولٍٍ فيك، ثم سألتَ عن سعره تصنّعاً منك أمام البائع أنك تريد الشراء، الأرجح أنّك ستُعيده إلى مكانه.
هذا ما أعهدُه فيّ، وأظنّ أن كثيرين بلا عددٍ من قماشتي، عندما أستطيب أن تجول عيناي في هذه الدكاكين، الأنيقة، وأفتّش عن كتبٍ ومجلّات، بقليلٍ من الاكتراث. غير أن الذي وقع معي في دكّانٍ لبيع المقتينات السياحية، في البترا، الأسبوع الماضي، مختلف، إذ صادَفت عيناي نسختيْن يتيمتيْن من كتابٍ، واحدة بالإنكليزية وأخرى بترجمته العربية،"تزوّجتُ بدويّاً". سألتُ عن سعره، فوجدتُه معقولاً (بالنظر إلى حيث نحن سياحياً). وعندما أقرأ أنها الطبعة الأولى بالعربية، وقد صدرت في 2008 (مكتبة العبيكان في الرياض بدعم من مؤسّسة محمد بن راشد آل مكتوم في دبي)، يغشاني حرجٌ طفيفٌ، فلم أسمع عنه منذ نشره قبل 16 عاماً. استشعرتُ أنه كتابٌ لا يتّصف بالذي نفترضُه من "صورة مسبقة نمطية" عن الكتب في دكاكين المواقع السياحية الأثرية، ولكن قراءته جيّداً وحدَها التي تحسم هذا الانطباع، المتسرّع ربّما. تالياً، بان لي أنه كتابٌ عظيم الفائدة في معرفةٍ اجتماعيةٍ وثقافيةٍ عميقةٍ ببدو المكان، هنا في البترا، حيث أقامت صاحبة السيرة التي يضمّها هذا الكتاب، الذي صدر بالإنكليزية في 2006، وتُرجم إلى 14 لغة، وزادت طبعاتُه عن العشرين.
ليس من كتابٍ سابق للنيوزيلندية مارغريت فان غيلديرملسين، ولا لاحق. ضمّنته حكايتها زوجةً لبائع السلع التذكارية في البترا البدوي محمد عبد الله عثمان، وعاشت معه في خيمةٍ في كهفٍ في المدينة الأثرية نحو ثلاثة عقود. وأنجبت منه بنتاً وولديْن. وفي هذه السنوات، بدءاً من 1978، سافرت معه إلى بلدها نيوزيلندا وإلى غير بلد، وزارها أهلُها وأصدقاؤها حيث كانت في الكهف، ثم في قرية مجاورةٍ سكنت فيها وأسرتُها. كتبت عن هذه التجربة الإنسانية الفريدة، بحبٍّ كثيرٍ، بصراحةٍ قُصوى، بأمانة الراوي النبيل، عن أوروبيّتها التي لم تُغادرها، وعن البداوة التي تشرّبتها وسكنتها، عن زوجها الذي أُعجبت به، وأخلص لها وأخلصت له، وقد أخبرت قارئ كتابها، الشائق حقّاً، إن حبّها محمّد هو ما كان يدفعُها إلى البقاء زوجةً معه، حيث هو وأهلُه وناسه. لا تأتي على واقعة زعلٍ بينهما، أو عنفٍ بدَر منه، أو أمرٍ ساءها منه (ربما آثرت عدم المرور على "أحداثٍ" صُغرى مثل هذه لم ترَ أنها تستحقّ توقّفاً عندها). تأتي على عملها ممرّضة هناك، بين بدو المكان، وغبطتها بما كانت تصنَع. تروي عمّا ترى كما يجب أن يُرى، فلا تعني الألفة مع المكان وتفاصيله أنه بديعٌ ومريحٌ بالضرورة. لا تبدو متحاملةً عندما تقول ما تقول عن نقصان النظافة، وعن عدم حرص البدو على تنظيف الأواني، ولا عندما تنقل عنهم قولهم إن البدويّ إذا صار ميسوراً، أو غنياً، يشتري حصاناً أو بندقية او يتزوّج ثانية، ولا تبدو مدّاحة عندما تُخبر عن نظافةٍ تستجدّ في الكهف والخيمة.
نقع في الكتاب على تجربةٍ إنسانيةٍ، فريدة حقاً. تغادر السيدة النيوزيلندية (الأردنية) إلى أستراليا لتقيم هناك، بعد وفاة زوجها، تحدّثنا عن أبنائها الذين كبروا وتعلموا، بعد أن أبلغتنا عن كثيرٍ ثريٍّ بالإيحاءات وبالمعاني البعيدة لفردانيّة الذات بين مجموعٍ مختلف، أخبرتنا عن حبّها أكلة الخبّيزة مطهوّة وذات حرارة، مع خبز الطابون، وعن اتّخاذها سنّاً ذهبية (غطاء ذهبي) في يومٍ مشمس، لتصبح كما البدويات حقّاً، وقد صنع لها هذا "نَوريٌّ"، يختلف في هيئتِه عن الناس. أخبرتْنا عن كثيرٍ لا استشراق فيه أبداً. كتبت، قبل أن يودّع قرّاءُ كتابها سردها المُتتابع المتمهّل، البالغ العاطفية، أن البدو لم يعودوا ينصُبون خيام الشَّعر على طول متن الجبل، هناك في وادي موسى، ولم يعودوا يرومون كهوفها القديمة الآمنة، أو ينامون تحت ضوء النجوم...
نعم، رأينا بدْواً هناك، ولم نر خياماً، ولا ناساً منهم يقيمون في كهوف.