النيجر والغابون: واقعية ورأسمالية

02 سبتمبر 2023
+ الخط -

أمر أساسي برز في انقلاب النيجر في 26 يوليو/ تموز، وانقلاب الغابون في 30 أغسطس/ آب الماضيين: قدرة الرئيسين المخلوعين، حتى إشعار آخر، النيجري محمد بازوم والغابوني علي بونغو، على التواصل مع العالم الخارجي. تواصُل عبر الوسائل المتاحة على الإنترنت، صوتاً وصورة، فضلاً عن القدرة على الحديث مع قادة العالم، أقلّه كما يحصل مع بازوم. تغيّر مفهوم الانقلابات في نيامي وليبرفيل. يُسمح لمن عُزلوا من السلطة، ولو كانوا في السجن أو في الإقامة الجبرية، بالحديث مع العالم الخارجي ونقل رسائلهم. ومن الطبيعي أن هناك نوعاً من الحرّية، إذ يدعو بازوم وبونغو إلى ردّ اعتبارهما وإعادتهما إلى السلطة، مهما كلّف الأمر، بذريعة أن وجودهما على كرسي الحكم متأتٍّ من ديمقراطية انتخابية وشرعية، سواء بالنزاهة أو بالتزوير.

يذكّر نموذجا بازوم وبونغو بما حصل في بدايات الغزو الروسي أوكرانيا، حين ظلّ الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، قادراً على الحديث مع العالم في كل حين. وتواصله وإلحاحه مع القادة الأجانب، سمحا له بالحصول على دعم غربي لبلاده، مكّنه من مقارعة الروسي، ومجابهته حتى في أرضه. الفارق بين الأوروبي وزميليه الأفريقيين التفاف الشعب والجيش حوله، بينما تخلى عسكر النيجر والغابون عن رئيسيهما.

تُظهر هذه النمطية من تواصل رئيس مخلوع مع الخارج مفهوماً جديداً يبدو فيه السياسيون وكأنهم في تلفزيون واقع فجّ وحقيقي، لا في برنامج تلفزيوني يستمرّ بضعة أسابيع وأشهراً قليلة على الأكثر في كل موسم. كما يُظهر "احترام" الانقلابيين خصوصية المخلوعين في التشابك مع الخارج، وإتاحة كل وسائل الاتصال لهم. وكأنها تراجيديا، أسوأ ما فيها يتمحور حول "قل ما شئت، لن يأتي أحدٌ لنجدتك"، وأفضل ما فيها، أقله كما يظهر في بيانات مختلف الدول والتكتلات الإقليمية، هو "التعاطف" مع المخلوع، ثم نتابع حياتنا وكأن شيئاً لم يكن.

تُحدث هذه الوقائع صدمة في المبادئ الأساسية لأي حراكٍ مناصر للحرّيات والديمقراطيات. ولم تكن لتوجد لو أن العالم الديمقراطي تعامل أولاً بديمقراطية مع مختلف الدول، وثانياً وضع حد جذري لكل من انقلب على المفاهيم الديمقراطية. لكن العالم، وبفعل نموّ غريزة البقاء والتكيّف، بسبب أزمة وباء كورونا وما تلاها من أزمات اقتصادية متفرّقة وإقليمية، جعل الفرد والمجتمعات ينحوان أكثر نحو واقعية مفرطة. تتمركز هذه الواقعية على سؤالين لا ثالث لهما: هل سيضرّ أي انقلاب بمصالحي؟ وما الذي سأكسبه إذا أعدتُ رئيساً مخلوعاً إلى موقعه؟

لم تعد الأجوبة عن هذين السؤالين ترفاً بالنسبة لمن رفع بيارق الديمقراطية، بل صنيعة الحاجة الملحّة إلى الرأسمالية الاستهلاكية التي وضعت الجانب الواعي من النموّ الإنساني جانباً، باسم المصالح المرحلية، وهي الطاقة والمعادن في زمننا الحالي. لذلك، لم يعُد غريباً الردّ على الانقلابات الأفريقية بعقوباتٍ شكلية أو صورية وتجميد عضوية في منظومات أممية ومناطقية، بل أضحت الأفكار التطوّرية التي تجعل من الإنسان قيمة بحدّ ذاته، ضحية لغرائز متفلّتة يغذّيها المفهوم الاستهلاكي.

في السياسة، يُمكن تأكيد أن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، يشهد على انهيار "العظمة" الفرنسية في العالم، لا في أفريقيا فحسب، وأن بلاده تتعرّض لأقسى نكساتها منذ احتلال النازي أدولف هتلر باريس في عام 1940. لكن ذلك أيضاً لا يعني "تحرّراً أفريقياً"، كما يكتب ويقول كثيرون، بل إعادة صياغة أرض تحوي رمالاً متحرّكة، سيغرق فيها الانقلابيون في مرحلة ما مستقبلاً. ذلك، لأن مفاهيم الانتصارات والهزائم، على شاكلة أزمنة الرومان والإغريق، لا يمكن تطبيقها في العصر الحالي. باتت النسبية ركناً أساسياً في الفوز والخسارة في صراعات الدول، لا تحرّكها سوى العناصر الاقتصادية. عدنا إلى الرأسمالية الاستهلاكية التي ترك انقلابيو النيجر والغابون باسمها الباب مفتوحاً لبونغو وبازوم في الاحتكاك مع الخارج، من أجل التلاقي في لحظة ما مع مصالح غربية تحت شعار "الواقعية".

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".