النموذج الوهابي وحياة مالك بن نبي
لا تكاد تقلّب صفحات مذكّرات مالك بن نبي إلا عاد إليك انفعاله، وإحباطاته من العلماء، وموجات من التوتر كانت تحتّم عليه العودة إلى إسلام العهد الأول، أو نصوص القرآن العليا، في الحياة وفي النفس، بل حتى معاني التصوّف الذي يستدعي مصطلحه، حين كان يشير إلى قصّة الروح، فالحنين يبقى للبحث عن مدرسة دينيّة أخرى، يرمي بينها مالك قصّة غضبه وألمه. هذا الغضب جعل مالك بن نبي يندفع إلى الطرف الآخر، وهو هنا الفكر السلفي، ولعلّ حالة مالك الاحتفاليّة بالسلفيّة لها علاقة بمُجمَل التطورات التي حصلت في المغرب العربي، من ضعف أو نبذ مدرسة الإمام مالك بن أنس، وصولاً إلى باقي أفريقيا، ورفض رابطة التصوّف وعلمائه، وإن كان ذلك غير دقيق، بحكم وجود أطياف أخرى لم تخضع للتصوّف المنحرف ولا للسلفيّة، بين المدارس الشرعيّة في أفريقيا.
ولكنّ السلفيّة هنا بذاتها مدار توقّف مهم، إذ إنّها في جانبها الإيجابي تحيي النقد والمراجعة، والتحقّق من صحّة النص، وتربطه بالبعث العقلي الذي ارتبط بالدعوة القرآنية للتدبّر، وتصحيح المفاهيم المغلوطة، وبالذات تقديس الإنسان الديني وخلط بعض قدراته بقدرات الإله، فهي هنا حالة إيجابيّة فكرياً، تعيد قدسيّة الدين وتحريره من نزعات العواطف المجنونة بين البشر، وصيانة التوحيد والعقل الرشيد معاً. وهذا ما جذب بعض الشخصيات الإحيائيّة، بل وعلماءَ من المسلمين نحو المفهوم السلفي الذي رفعه المشروع الديني السعودي، عند تأسيس الدولة عبر الدعوة الوهابيّة، التي خصّها مالك بن نبي باحتفائيّة كبرى، في ظل غضبه الواسع على المدارس السنيّة الأخرى، فهل كان النموذج الوهّابي الذي يزكّيه باسمه الصريح، مثالاً للمدرسة التشريعيّة الملهمة للنهضة؟
خصّ مالك بن نبي النموذج الوهابي باحتفائيّة كبرى، في ظل غضبه الواسع على المدارس السنيّة الأخرى
نطرح هنا أولاً المؤشّر المهم لحجم التأثّر النفسي لمالك بن نبي، رحمه الله، من حملة الاضطهاد والمطاردة له، والتضييق الذي شاركت فيه النخبة الجزائرية السياسيّة والثقافيّة والدينيّة، وانعكست على موقفه وتقديراته، وفي ظنّي، على فكره، فلقد طرح مالك بن نبي "المشروع الوهابي لابن سعود"، هكذا سمّاه، بديلاً منقذاً للتفكير الإسلامي المعاصر، يمثّل النموذج التطبيقي للسلفيّة الإسلاميّة. وكان يعمل بكلّ جدٍّ للحصول على وظيفة في الحجاز بعد حصار الفرنسيين و"الجزائر الفرنسيّة" له، والتي شارك فيها قادة للحراك الوطني ذاته، فكانت مشاعر الغضب تُحرّكه نحو ذلك الأفق البعيد الذي سَخِرَت منه باريس، ليكون ضوء الأمل الجديد، الذي يسعى المهندس الكهربائي، الذي عبر بفكرته العلمية إلى فلسفة الغرب، وأشرقت الظاهرة القرآنيّة في نفسه، وعُطلت مسيرته المهنيّة والكفاحيّة، إلى ذلك النموذج الديني الذي يولد في السعودية، فكان هذا الإلهام جذوةَ عاطفةٍ، لا حقيقةً علميّةً ولا نموذجاً فكرياً يتطابق مع نهضة الشرق، التي حلم بها.
ولو وقفنا بدقّة على مساحة حديث مالك بن نبي، وتعدّدها في مذكّراته، لوجدنا أنّه اعتمد في تزكيته الضخمة للسلفيّة (السعوديّة) ونقده في المقابل السلفيّة الجزائريّة، التي مثّلها الشيخ عبد الحميد بن باديس (1940)، على موقف والدته في الحجّ، والأمن الذي وجدته، وتفعيل حكم اللُقطة (الضّالة)، وهو ما يضيع من الإنسان من عين أو مال ويُفقد، فيجده مسلم آخر، فالنظام الأمني في هذه الحادثة حسب مالك، هو نموذج ملهم للتشريع. ثم موقف لويس ماسينيون (1962) وغيره من مستشرقين، في نقد وامتهان "التخلّف الوهابي"، وما يعنيه موقفه لدى مالك بن نبي، من قوة استعلاء استعماري على الفكرة الدينيّة.
طرح مالك بن نبي "المشروع الوهابي" بديلاً منقذاً للتفكير الإسلامي المعاصر، يمثّل النموذج التطبيقي للسلفيّة الإسلاميّة
ولم يعرض مالك بن نبي لأيّ دراسة معمّقة لأئمّة الدعوة النجديّة، الموثّقة في كتبهم، ولا لمجمل التجربة السياسيّة في الفكرة الدينيّة التي خاضتها الدعوة والدولة السعوديّة مع حاضر العالم المسلم، ولا في رصد مآل العلاقة بين النموذج الديني المُلهم لمالك بن نبي، في واقع هذه التجربة، مع المشروع الدولي الكولونيالي الآخر (الأميركي) في الخليج، وفي مساحات النهضة العقليّة والمدنيّة الإسلاميّة في التجربة. ولقد برز خطأ مالك بن نبي في جهله تاريخ "إخوان من طاع الله" (القبائل البدويّة) التي تم استيعابها قواتٍ مقاتلةً لصالح النفوذ السعودي وتلقينها المعتقد الديني الوهابي، بعد مرحلة جهل كبيرة للدين الإسلامي، ثم أعيد تنظيمها أفواجاً مقاتلةً لصالح الدولة، لكنها بعد ذلك تمرّدت بناءً على الفقه الذي تعلّمته من شيوخ الدعوة، ورفضت وسائط التطوّر الحديث التي أُدخلت إلى السعوديّة، وغضبت من فتح قنصلياتٍ للدول الغربيّة، التي تُعتبر في فكر "إخوان من طاع الله" مركز الأمم الكافرة، وكانت تُصّر على الزحف على نفوذها ومقاتلتها أي على مواجهة مسلحة مع مناطق الانتداب الانكليزي، فيما كان مالك بن نبي يواجه حرباً من الكولونياليّة الفرنكوفونيّة. لكن مالك بن نبي اعتبر تمردها على الدولة السعوديّة الثالثة، في "السبلة" معركة عميلة وخيانة لصالح الإنكليز، في حين أن الإنكليز هم من قصف قوات البادية المتمرّدة، ودعمت بريطانيا الدولة السعوديّة في القضاء عليهم، فكيف أصبحوا عملاء لندن؟
من هنا، يتّضح لنا أنّ مالك بن نبي كان مُغرقاً في عاطفته وانفعالاته، فخضع لهذه المشاعر، وليس للتدقيق الفكري والعلمي، الذي يبحث فيه عن نماذج الصعود الحرّة والتنموية والأخلاقيّة للشرق المسلم، والمستقلّة عن الهيمنة الغربية، ولذلك من المهم جدّاً أن تُفرز أفكار مالك بن نبي التي انطبعت عبر مشاعره المنفعلة، عن مركز فكرته ورؤيته للنهضة، حتى يعاد بعث مشروعه المُلْهِم في أفكار النهضة وتأسيسها عبر "الظاهرة القرآنيّة"، في أجمل ثوبٍ وأدقّ صورة. ولذلك، مهمّة النقد هذه هي ردّ اعتبار له، وخلاصة رؤية لا تُغيّب مذكّراته، فهي ذات علاقة مهمّة بكتبه، ولكن تُفككها وتفهم مدارها بين النفسي والعلمي، وتضعها في الموقع الصحيح، وهذا يستجيب لوصيّته في العناية بإرثه المعنوي، رحمه الله.