النكبة بين الماضي والراهن
إذا كان 15 مايو/ أيار 1948 هو التاريخ الرسمي للنكبة الذي لا يمحو كل ما سبقه من تهيئة لهذا اليوم، فإن ما بعده يشكّل امتداداً لما يجسّده هذا التاريخ من إجرام إسرائيلي متواصل يهدف منذ أكثر من سبعة عقود كاملة لاقتلاع ما تبقى من فلسطينيين على ما تبقّى لهم من أرضهم.
وتترافق الذكرى هذا العام مع تغوّل إسرائيلي يشمل كل ما له علاقة بقضايا الفلسطينيين بدءاً بارتكاباتٍ لا تتوقف لتهويد الأقصى وفرض التقسيم الزماني والمكاني. ولا يكاد يخلو يوم من اقتحامات المستوطنين بحماية قوات الاحتلال في مقابل كل صنوف التضييق على الفلسطينيين.
أما التغوّل الاستيطاني فيبلغ ذروته. وبلغة الأرقام، صنّف العام 2022 بأنه من أسوأ السنوات منذ 1967 على صعيد الاستيطان. وتفيد أرقام هيئة مقاومة الجدار والاستيطان (تتبع لمنظمة التحرير الفلسطينية)، بأن عدد المستوطنين في مستوطنات الضفة الغربية بما فيها القدس 726427 مستوطنا موزّعين على 176 مستوطنة، و186 بؤرة استيطانية (غير مرخّصة)، منها 86 بؤرة رعوية زراعية حتى بداية 2023. كما تضاعف عدد الوحدات السكنية الاستيطانية في القدس المحتلة ثلاث مرّات خلال 2022. ولا يكتفي الاحتلال بذلك، بل يمعن في سياسة هدم المنازل في الضفة والقدس إلى جانب تهجير المقدسيين من المدينة عبر شتى الوسائل المتاحة. ويهدف ذلك كله إلى القضاء على أي فرصة ممكنة لإقامة دولة فلسطينية مترابطة على ما تبقّى من الأرض.
يحدُث ذلك كله بعدما بلغ التطبيع أوجه من خلال اتفاقات أبراهام وما حولها وتحوّلت العلاقة بين دول عربية والاحتلال إلى تحالفٍ وإلى تغييب القضية الفلسطينية وتهميشها، بينما تحكُم إسرائيل اليوم أكثر حكوماتها تطرّفاً عبر الشراكة بين اليمين المتطرّف والفاشي. وتكفي العودة إلى وثيقة الخطوط العامة لهذه الحكومة عقب تشكيلها وما ورد فيها من أن "للشعب اليهودي حقّاً حصرياً وغير قابل للتقويض على كل مناطق أرض إسرائيل"، وأنها "ستدفع الحكومة وتطوّر الاستيطان في جميع أنحاء أرض إسرائيل، في الجليل والنقب والجولان ويهودا والسامرة"، لاستنتاج حجم الخطر الذي يواجهه الفلسطينيون حالياً. فمنذ اللحظة الأولى لتأليفها، حسمت حكومة بنيامين نتنياهو خياراتها في تشديد الهجمة ضد الفلسطينيين، وهو ما أثبتته الأيام تاليا، إن على صعيد ما يحدُث في القدس أو الضفة الغربية أو في قطاع غزة أو حتى مع الأسرى، وهو ما قاد إلى القتل المتعمّد للأسير خضر عدنان، بينما كان في اليوم الـ86 لإضرابه عن الطعام. ويضاف إلى ذلك تشريع مليشيات تحت إمرة وزير الأمن القومي المتطرّف إيتمار بن غفير.
هذا الراهن بقدر ما يعكس إجرام الاحتلال بحقّ الشعب الفلسطيني بقدر ما يجدّد الحديث عن كيفية الخروج من هذا الواقع، وعن الخيارات المتاحة للفلسطينيين على الأرض وسياسياً ودولياً. الأحداث المتتابعة، منذ سنوات، بما فيها معركة سيف القدس في 2021 ومعركة وحدة الساحات في 2022، والجيل الجديد من المقاومين في الضفة الذي يتصدّى للاحتلال ويتحدّى محاولات التصفية بعد كل عملية، تؤكد أن الاستسلام ليس خياراً وارداً. لكن ذلك ليس كافياً وإن كان مهماً.
الاشتباك الأساس الذي غيّب فترة قبل أن يعود ليأخذ حيزاً واسعاً وضرورياً يتعلق بكيفية التعاطي مع النكبة وما تلاها على أنها احتلال ممنهج ضمن مشروع استعماري استيطاني يطبّق منذ أيامه الأولى أسوأ أنواع التهجير والإحلال والأبارتهايد.
وإذا كان الاحتلال قد نجح فترة في فرض سرديته أو أقله جعلها الأعلى صوتاً بشأن ما يجري في الأراضي المحتلة، فإن الفترة الماضية تشهد تحوّلاً من خلال التعاطي مع الاحتلال بوصفه نظام أبارتهايد، وهو ما يمكن البناء عليه في المعركة المستمرّة ضد الاحتلال.