النسخة الفرنسية من فوبيا المهاجرين
هنالك ما يشبه الإجماع على أن المهاجرين إلى أوروبا سوف يواجهون تحديًا كبيرًا خلال الفترة المقبلة، بسبب التغيرات السياسية والاجتماعية التي تجتاح القارّة. لن يكون هذا مقصوراً على القادمين الجدد، وإنما قد يشمل الأجيال القديمة أو المقيمين السابقين.
مع أن الأنظار تتّجه إلى الأزمة العالمية التي تسبّبت بها تداعيات الحرب الأوكرانية، إلا أن تصاعد لهجة الخطاب المعادي للمهاجرين يسبق الأزمة الاقتصادية الحالية بكثير، فمنذ بداية القرن، كان بالإمكان أن يُلاحظ أن الأصوات العنصرية والمتطرّفة لم تعد معزولة أو مهمّشة، وإنما باتت في قلب المعترك السياسي، كما صار يُحسب لها ألف حساب إبّان مواسم الانتخابات، إلى درجةٍ جعلت المرشّحين يتنافسون على خطب ودّها ورضاها، وهو ما ظهر بشكل سافر في أكثر من تحدٍّ انتخابي، تقدمتها الانتخابات الفرنسية التي أوضحت أن الأفكار اليمينية أصبحت تملك مقاعد متقدّمة في "جمهورية الأنوار".
حدثت في فرنسا أزمة برلمانية بداية شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، حينما أطلق البرلماني اليميني، غريغوار دو فورناس، عبارة وصفت بأنها عنصرية إبّان الاستماع لنقاش يحكي مأساة مركب مهاجرين. دو فورناس هتف بشكل مفاجىء قائلاً: "فليعودوا إلى أفريقيا"، وهي عبارة ملتبسة لا يُفهم معها ما إذا كان يقصد المهاجرين الأفارقة، أو النائب المتحدّث، الذي تصادف أن كان هو الآخر من أصول أفريقية. عوقب دو فورناس بتوقيفه مؤقتًا عن حضور الاجتماعات ونزع بعض الحصانة البرلمانية عنه بعض الوقت، لكن الحادثة أشاعت جدلًا كبيرًا، فالمشكلة تتجاوز العبارة المتهوّرة لتشير إلى تغير كبير في بنية المجتمع السياسي، الذي أصبح كثيرون من أبنائه لا يخفون آراءهم الرافضة الأجانب، بل على العكس، هم يتفاخرون بها، لأنهم يحصلون بموجبها على دعم ومساندة كثيرين من فئاتٍ كثيرة من الناخبين.
الخبراء الاقتصاديين وأرباب العمل في فرنسا ذاتها يدعون إلى استقبال الملايين من المهاجرين خلال الأعوام المقبلة، من أجل أن تحتفظ البلاد بقدرتها على الإنتاج
في الغالب، كان تصرّف ذلك البرلماني عفوياً، ربما لأنه لم يمتلك بعد الخبرة السياسية الكافية التي تجعله يفصل ما بين رغباته الداخلية وما يصلح لأن يكون محلّ إعلان سياسي. لهذا، كانت تلك الصيحة القصيرة محرجة للجميع. للحكومة التي دانتها على أرفع المستويات، وللتجمّع الوطني اليميني الذي بنى رموزه تقدّمهم خلال الانتخابات أخيرا على الادّعاء بأنهم ليسوا معادين للأجانب، وليسوا مصابين برهاب الإسلام أو معاداة السامية.
الحقيقة أن في فرنسا ما يشبه الفوبيا المتعلقة بالأجانب والمهاجرين، غير المبرّرة بالنظر إلى الأعداد القليلة نسبيًا من المهاجرين فيها، فقد أصبح من المعتاد أن يبدأ كل وزير جديد للداخلية عمله بسنّ قوانين أكثر حدّة للتعامل مع اللاجئين والمهاجرين. نقول إن الأعداد قليلة لأنه لا يمكن مقارنة أعداد المهاجرين في فرنسا بأعدادهم في بلدان أخرى، كألمانيا أو هولندا أو السويد، وتتضح المقارنة إذا أخذنا في الاعتبار المساحة الكبيرة والاقتصاد الفرنسي القوي.
الغريب والمتناقض هنا أن الخبراء الاقتصاديين وأرباب العمل في فرنسا ذاتها يدعون إلى استقبال الملايين من المهاجرين خلال الأعوام المقبلة، من أجل أن تحتفظ البلاد بقدرتها على الإنتاج، بل إنه جرى الشروع بالفعل في سن قانون لتشجيع قدوم العمال المهرة والحرفيين والمتخصصين التقنيين في مجالات معينة. أي أنه يجرى التضييق على من يحاولون القدوم من جهة، وفيهم خبرات كثيرة تحتاجها البلاد، كما تُعقّد فرص توفيق الأوضاع بالنسبة لمن هم بالفعل منخرطون في سوق العمل، في حين يجرى البحث عن أعداد أخرى من الراغبين في القدوم، وذلك وفق دائرة صعبة الفهم أو التبرير. مع الوضع في الاعتبار الحاجة الماسّة للأيدي العاملة التي تلخصها الإحصائية، التي تقول إن ثلثي العاملين في المجال الزراعي مثلاً هم من الأجانب، وأن هناك نسباً مشابهة في مجالات أخرى، فإن سؤالاً يفرض نفسه: هل تبحث فرنسا، ودول أوروبية أخرى، عن عمالة رخيصة ومجانية وبلا حقوق تقريباً، عمالة تقضي أعمارها في الظل، بانتظار أن تتكرّم عليها الدولة وتمنحها صفة الشرعية؟
في فرنسا ما يشبه الفوبيا المتعلقة بالأجانب والمهاجرين، غير المبرّرة بالنظر إلى الأعداد القليلة نسبياً من المهاجرين فيها
خطة إيمانويل فالس التي أعلن عنها في العام 2012، وكانت تحاول تقنين أوضاع من هم بالفعل في سوق العمل، حملت بارقة أمل، لكن التعقيدات التي صاحبتها لجهة الإجراءات، وخوف المتقدّمين من الدخول في مقامرة، لأن إعلانهم عن أنفسهم كان يعني النجاح أو مغادرة البلاد، وذلك كله لم يجعل تلك الخطة تؤتي أكلها بالشكل المطلوب.
المعركة الفرنسية ضد "تهديد المهاجرين" لا تجعل المسؤولين يكتفون فقط بطرح الموضوع إبّان كل لقاء مع نظرائهم من دول الشرق أو الجنوب، ولكنها تجعل فرنسا تدخل في احتكاكاتٍ سياسيةٍ خشنة، حتى مع جيرانها الأوروبيين، خصوصا مع دول مثل إيطاليا، التي يبرز، بين حين وآخر، خلاف معها بشأن استقبال المهاجرين، وهو خلاف كان موجودًا، لكنه احتدم منذ ما يُعرف بأزمة اللاجئين.
أعادت إيطاليا، قبل أيام، توجيه أحد قوارب المهاجرين غير الشرعيين إلى الموانئ الفرنسية، في طريقة للقول إنها استقبلت أعدادًا أكبر من قدرتها على الاستيعاب، وإنه على بقية الدول الأوروبية، وخصوصا فرنسا التي تبدو أنانية في هذا السياق، أن تتحمّل قليلاً من المسؤولية.
بعد شد وجذب واتهام لإيطاليا بأنها هي التي تتنصّل عن المسؤولية، لأن هؤلاء اللاجئين إنما وصلوا إلى شواطئها، اضطرّت فرنسا لاستقبال القارب، وهو الأمر الذي أثار غضب اليمين، الذي تساءل بعض ممثليه: ماذا لو لم تكن هذه هي المرّة الأخيرة، وكانت مجرّد بداية لإرسال آلاف من العالقين إلى الأراضي الفرنسية؟
إيطاليا متهمة من فرنسا بالتساهل مع المهاجرين وتسهيل عبورهم نحو قلب أوروبا، لذلك تعلن باريس، من حين إلى آخر، أنها ستكون أكثر تشدّدًا في مراقبة الحدود. المشكلة أن هذا الاتجاه لتحويل الحدود بين الدول الأوروبية من شكلها الرمزي إلى حدود حقيقية دقيقة التفتيش سوف يجعل الاتحاد يفقد أهم مكتسباته: حرية الحركة والتنقل بين دوله.