الناس في كمبوديا لا يضحكون

20 فبراير 2021

عاملة خلال احتجاج في بنوم بنه بعد إغلاق معمل نسيج تعمل فيه (29/7/2020/فرانس برس)

+ الخط -

"الناس في كمبوديا لا يضحكون"، هكذا يُقال. الجميع مسكونٌ بكابوس نظام الخمير الحمر، وإبادة من 1.5 مليون إلى مليوني شخص بين عامي 1975 و1979، أي ربع سكان كمبوديا في ذلك الحين. كل من زار بنوم بنه يؤكّد هذه الحقيقة. الكآبة في كمبوديا جزء من تاريخٍ مثقلٍ بعملية فرز ديمغرافي قسري، قام به بول بوت وأعوانه للسكان. عملية غيّرت وجه كمبوديا إلى الأبد، على الرغم من سقوط الخمير الحمر ووفاة بوت. قد تنجح السلطات الحالية في البلاد، والمحاكم الدولية، في إحقاق العدالة المتأخرة لملايين الكمبوديين، لكنها لن تعيد عقارب الساعة إلى زمن انتصار الخمير الحمر على خصومهم في الحرب الأهلية، لمنعهم من الانتصار.

الحزن الكمبودي المتأصل في جنوب شرق آسيا يشابه أحزاناً مماثلة وغياباً للضحكة في أرجاء من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. تلك البقعة التي تذبل فيها البسمة عاماً بعد آخر، على وقع التدهور المستمر في مختلف نواحي الحياة. في فلسطين، يندر أن تجد ابتسامةً على وجه أسير محرّر حتى، لأن الدولة الفلسطينية التي يصبو إليها لا تزال قيد الموت السريريّ. حقاً إن العالم لم يتعلم من كمبوديا. في سورية، أكبر حالة نزوح ولجوء في تاريخ ما بعد الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، أماتت ما تبقّى من الضحكات السورية. الشوارع السورية زاخرة بـ"أبوكاليبسية" تذرّ قرونها. في اليمن، لا تغيب الضحكة فحسب، بل إن ملايين البشر، حرفياً، غير قادرين على الحصول على قوتهم اليومي. المجاعة في اليمن لم تعد حالةً مرحليةً تستلزم معالجة استثنائية، بقدر ما أصبحت وباءً متفشّياً يهدّد المجتمع اليمني وديمومته. في العراق، لم تعد الضحكة أساسية في النمط اليومي. الحروب المتلاحقة على رأس العراقيين لا تفسح المجال لسلوك مبتهج في دقائق الحياة. في لبنان، لم يعد الوجوم حالةً عابرة، بل بات نمطاً يومياً يعيش الناس فيه. الموت المتسلل من خلف الأحزان اللبنانية يدفن روح الحياة لدى شعبه. في إيران، يندر من يضحك في ظلّ الوضع الاقتصادي المتردّي وانعدام الآفاق والمستقبل. أطفال أفغانستان لا يعلمون معنى الابتهاج وكهول السودان ينتقلون من وجعٍ إلى آخر وأهالي ليبيا مكتئبون. هذا الجزء من الكوكب لا يحتاج إلى قضايا موهومة وديماغوجية، بقدر حاجته إلى الشعور بإنسانيته، وبالتالي إدراك حقيقة إيمانه بمطلق قضية.

أن تحتاج إلى الضحك والابتسام ليس عاراً ولا فضيحة ولا نقصاً أخلاقياً، بل دليل على حاجتك إلى الراحة العقلية والنفسية. حقّك السليب في هذه الأيام، بفعل تفشّي وباء كورونا، وبفعل التدهور الاقتصادي في بلادك، وبفعل الحروب المتناسلة والمتناسخة، وبفعل الفساد والهدر والأنظمة القمعية، لا يجدر به أن يكون نمط حياة أبدياً.

"الناس في كمبوديا لا يضحكون"، وكذلك في اليمن وفلسطين وسورية ولبنان وإيران وأفغانستان والسودان وليبيا وغيرها. قبل طغيان كورونا على الكرة الأرضية، كان معروفاً أن تصنّع الوقار والجدّية لا يصنع إنساناً، بل منافقاً. أما اليوم فإن النفاق الأكبر يتجلّى في إقناع الناس بأن الضحكة لن تعود، لأن "الحياة واقعية"، ولأن "مستقبلنا المليء بالأحزان" لا يقتضي الضحك، لأنه غير مقبول. في مكان ما، على هذا الإنسان أن ينتصر على الأمر الواقع المفروض عليه، لأن الشعور بالموت في كل لحظة من حياتنا، خارج إطاره الطبيعي، هو موتٌ لنا بصفتنا بشرا، وموت لمركّب أساسي في جسمنا لم يخلق عن عبث. قمع الفرح بأساليب بدائية ومجتمعية، لن يؤدّي سوى إلى زيادة أمراضنا، وصولاً إلى الفناء الذاتي. لا تبدأ الضحكة من تجاهل الواقع المعيش أو الاعتياد عليه، بل في فهمه ومحاربته قدر الإمكان، لتستحقّ إنسانيتنا أن تعيش يوماً واحداً من الحرية. لا يستأهل أياً منا الموت الدائم في بلادنا. الخمير الحمر انتهوا ويوماً ستضحك كمبوديا وكذلك نحن.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".