المونديال وتناقضات العصر السياسية
ربما كان مونديال قطر الأكثر تسييساً بين بطولات كأس العالم لكرة القدم، إذ تجلت في إطاره، وبصورة غير مسبوقة، تناقضات عصرنا السياسية. بدأ ذلك بحملة تحريض عنصرية في دولٍ غربيةٍ لم يرُقها أن تفوز قطر بتنظيم هذا المونديال، بدءاً من التشكيك في قرار الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) اختيار قطر لتنظيم البطولة، ومروراً بالادّعاءات أن قطر ليست قادرة على إعداده بالشكل المطلوب، وانتهاءً بحملات التحريض العنصري على قطر والعرب والمسلمين، مع النجاح الباهر الذي حققته قطر بدقة تنظيمها المونديال وسلاسته، وما وفرته من أمن وسلامة وراحة لزوّارها والفرق المشاركة. ولم يرُق كثيراً من هذه الدول أن بلداً عربياً صغير الحجم، وكبير الطموح، استطاع أن يتفوّق على دول عظمى في تنظيمه بطولة كأس العالم لكرة القدم.
تعمّق الطابع السياسي لأحداث المونديال مع نجاح فرق من الدول العربية والنامية، أبرزها المغربية والتونسية والكرواتية والسنغالية، في التفوّق رياضياً على فرق دول لها تاريخ استعماري طويل. وبدا التناقض صارخاً عند مشاهدة فرق هذه الدول تستعين بلاعبين أصولهم من مستعمراتها السابقة، وفي بعض الحالات شكّل هؤلاء اللاعبون أغلب لاعبي هذه الفرق. وكان مثيراً مراقبة سلوك جماهير كرة القدم وهي تتابع المباريات وتختار أي فريق تشجع في كل مباراة. ولم يكن ممكناً إخفاء الطابع السياسي لخياراتٍ كثيرة، في انحيازها لمن تعتقد أنهم عانوا من ظلم تاريخي، واستغلال لشعوبهم.
ومن جانب آخر، حققت مباريات كرة القدم أهدافاً فشل الحكّام والحركات السياسية في تحقيقها عقوداً. ومنها وحدة العرب جميعاً في دعمهم فرق قطر والسعودية وتونس والمغرب. وعندما اجتاز فريق المغرب كل العقبات، ووصل إلى نصف النهائي ليكون من أنجح أربعة فرق في العالم، توحّد العرب جميعاً، بل جميع الدول الإسلامية، على تشجيعه.
أكدت الدوافع السياسية استحالة عزل أي نشاط في عالمنا عنها وعن المعطيات التاريخية
وكشفت الهجمات العنصرية، التي وصلت إلى حد إحراق أماكن عامة وتدميرها في بلد كبلجيكا، مدى تغلغل العقلية العنصرية الاستعمارية، التي تجلت سابقاً في مواقف بعض الأحزاب والحكومات، من قضية الهجرة والمهاجرين من البلدان الفقيرة، كذلك ظهرت بوضوح في نجاح أحزاب فاشية وعنصرية، بالغة التطرّف اليميني، في تحقيق نتائج غير مسبوقة في انتخابات بلدانها، كما جرى في إيطاليا وفرنسا.
وفي مقابل الاتجاهات العنصرية، تجلت مظاهر التضامن الأممية والدولية مع الشعوب المناضلة من أجل حريتها. وكان أبرزها التضامن الجارف مع الشعب الفلسطيني، حتى صارت فلسطين من الأكثر حضوراً في مونديال قطر، رغم عدم وجود فريق فلسطيني مشارك فيه، وغزت الأعلام الفلسطينية كل الملاعب والساحات، لتثبت أيضاً فشل مشاريع التطبيع مع إسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني، وتؤكّد وقوف كل الشعوب العربية وفرقها الرياضية مع الشعب الفلسطيني، بما فيها الشعوب التي تورط حكامها في التطبيع. وكان لافتاً ما عاناه ممثلو الإعلام الإسرائيلي من عزلة، وإدانة ومقاطعة من الجماهير المشاركة في المونديال، ووصف بعضهم في تقاريرهم أنفسهم بأنهم منبوذون كلياً.
ورغم عدم تأثير الدوافع السياسية على الأغلب في مهنية المباريات التي جرت، إلا أنها أكّدت استحالة عزل أي نشاط في عالمنا عن الدوافع السياسية والمعطيات التاريخية. ولربما كانت المتابعة الجماهيرية غير المسبوقة لهذه المباريات، وتوافر فرص مشاهدتها عبر القنوات الفضائية في العالم كله، سبباً إضافياً لانعكاس الأوضاع السياسية والاجتماعية على هذه المباريات، بالإضافة إلى انتهاء احتكار الرجال التقليدي متابعة المباريات، وتعاظم نسبة مشاركة النساء في هذه المتابعة.
يحصل 10% من سكان العالم الأغنياء على 52% من الدخل العالمي، ويمتلكون 76% من مجمل ثروات العالم
العبرة الأكبر في ما جرى تكمن في عدم صحة الادّعاءات بإمكانية عزل الرياضة، وكذا الفن والأدب، عن الحياة السياسية للشعوب، أو عن تناقضات العصر السياسية والاقتصادية، خصوصاً في عصر يشهد استقطاباً لا سابق له بين المفرطين في الغنى والفقراء، وبين دول استعمارية تحاول إبقاء سيطرتها الاقتصادية والعسكرية وشعوب تدافع عن حقها في الحرية والاستقلال. وفي عصر وصل فيه تمركز ثروات كبار الأغنياء إلى حد امتلاك ثمانين شخصاً ما تملكه نصف البشرية جمعاء، أي إن ثمانين شخصاً يملكون أكثر مما يملكه أربعة مليار إنسان في كوكبنا.
وفيما لا تتجاوز القدرة الشرائية للفرد لدى نصف سكان العالم من الفقراء 2900 دولار سنوياً، فإنها تصل لدى 10% من سكان العالم الأغنياء إلى 190 ضعف ذلك الرقم، أي 551,000 دولار للشخص سنوياً. وخلال أزمة وباء كورونا، تضاعفت ثروة أغنى عشرة أثرياء في العالم، فيما تضرّرت مصالح وممتلكات 99% من سكان العالم. ويحصل 10% من سكان العالم الأغنياء على 52% من الدخل العالمي، ويمتلكون 76% من مجمل ثروات العالم. وتمثل هذه الفروق الصارخة والظالمة في عصرنا محرّكاً ودافعاً كبيراً للعنصرية، في سلوك من يملكون ويثرون على حساب الشعوب، ويحرصون على الحفاظ على ثرواتهم وممتلكاتهم ومنظوماتهم الاستغلالية، وهي، في المقابل، تُحدِث لدى غالبية شعوب العالم شعوراً عميقاً بالظلم والإجحاف، ورغبة عارمة في تغيير الواقع الذي يعيشونه.
ولذلك كله، وراء ستار تشجيع الأداء الفني للفرق الرياضية، والحماسة لفريق دون آخر، دوافع أعمق، سياسية واقتصادية واجتماعية. وما كان مستتراً في مسابقات سابقة، غدا أكثر وضوحاً وجلاءً في عالم يكافح أغلب سكانه من أجل العدالة والمساواة، ويتعطّشون للانتصار والتفوّق، ولو في مباريات كرة القدم.