"الموريتاني" .. الحكاية أقوى من الفيلم
لا يعني العنوان أعلاه أن فيلم الأسكتلندي، كيفين ماكدونالد، "الموريتاني"، ضعيف. وإنما أنه عاديٌّ في إيقاعه. ليس بالمتانة التي يتوسّلها مشاهدٌ متطلّب، من أمثالنا، نحن أصحاب التعاليق في الصحافة السيّارة، ممن لا يعجبهم العجب ولا الصيام في رجب. فيه الأداء العالي لنجومه. فيه تلك السمة الهوليودية التي تأتي بتنويعاتٍ وأمزجةٍ أميركيةٍ متعدّدة. فيه ما فيه من عناصر فيلمٍ ناجح. ومع هذا كله وغيره، افتقد القوة العالية المتحقّقة في الحكاية التي ينشغل بها. بدا تقليديا، حدّوتتُه منحته الجاذبية، سيما في لقطاتٍ غير قليلةٍ، تتابعت لتصنع التشويق اللازم الذي يشدُّ مُشاهد فيلم عن عربي مسلم يتّهمه رامسفيلد وجورج بوش بالإرهاب. ولكن قطبةً في الفيلم أبقته أقلّ من قوة حكايته الشديدة الفرادة، ذات الكثافة العالية من الألم، المثقلة بحرارةٍ أكثر سخونةً مما بدا عليه الفيلم الذي جاء باردا في بعض مواضعه. وليس في الوسع حسم ما إذا كانت انطباعاتٌ مرتجلةٌ (ومتسرّعة؟) كهذه سبب عدم الإقبال الواسع عالميا، سيما في الولايات المتحدة، على مشاهدته، وقد تكلّف 14 مليون دولار، ولم يُحرز حتى الساعة إلا 3,3 ملايين دولار، أو إنها جائحة كوفيد خرّبت على الفيلم الذي يستحقّ، أيا كانت زوايا النظر إليه، مشاهدتَه، بل والاهتمام به، والبناء على مضامينه شديدة الأهمية.
فيلمٌ عن ظلمٍ مريعٍ تعرّض له المهندس (والكاتب) الموريتاني، محمدو ولد صلاحي، الذي تسلمته الولايات المتحدة من حكومة بلاده (سلوك عربي مخزٍ)، شهرين بعد واقعة "11 سبتمبر" في العام 2001، ثم تبيّن أنه محتجزٌ في غوانتانامو، السجن سيء الصيت، حيث أمضى 14 عاما (وشهرين)، ولم تستطع السلطات الأميركية إثبات تهمةٍ تدينه. وبعد سبع سنوات، يحصل على حكم بإطلاق سراحه، إلا أن إدارة أوباما استأنفت لتبقيه سبعا أخريات. وفي الأثناء، ترافعت عنه محاميةٌ نشطة، وجدت في قضيته نقصانا ظاهرا وفادحا في "سيادة القانون". واختير ضابط (أدّى دورَه ستيورات كوتش)، من أجل أن يسوقه إلى الإعدام، ثم استنكف بعد ما راعَه ما عاينه من تعذيبٍ جسيمٍ لقيه صلاحي الذي سيق إلى غوانتانامو بسبب مكالمةٍ تلقّاها من قريبٍ له من هاتف بن لادن. وفي الأثناء، كتب ولد صلاحي (أدّى دوره الجزائري الفرنسي طاهر رحيم)، وهو المتعلم والمثقف، يومياتٍ ومراسلاتٍ بالإنكليزية، اجتمعت لاحقا في كتابٍ، صار من الأكثر مبيعا لمّا نُشر، وترجم إلى عدة لغات (صدر بالعربية عن دار الساقي، بيروت، 2015). اعتمد عليه، تاليا، ثلاثة كتاب سيناريو لإنجاز الفيلم المتحدّث عنه هنا، والذي كان وفيا لنصوص الكتاب، واختُتم بمشاهد حقيقية لولد صلاحي نفسِه في بلده، لمّا عاد، وصُور له مع المحامية نانسي هولاندرز، وقد أدّت دورها جودي فوستر التي عادت إلى السينما من أجل هذا الفيلم، بعد غياب خمس سنوات، فأحرزت جائزة غولدن غلوب لأفضل ممثلة دور ثان.
يبدأ فيلم مخرج الوثائقيات، ماكدونالد، بمشاهد البحر وشاطئه في موريتانيا، والريح تعبث بزي محمدو ولد صلاحي، ومشاهد عرسٍ وغناءٍ فرحٍ بأصوات نسوية، جميلة للحق. وبذلك تكون ضربة البداية في "الموريتاني" موفقة، لأنه سينتقل من هذه البهجة في البلد العربي المسلم إلى حيث الفظاظة وانعدام الإنسانية، في الجزيرة الكوبية التي أتقن الفيلم تشخيص القسوة فيها، بتصوير الأقفال والأقفاص والبوابات الحديدية، وأصوات الحركة الثقيلة لبساطير عساكر غلاظ، معظمهم سود (هل ثمّة عنصريةٌ هنا؟). وفي الأثناء، تقرأ تنبيها في المدخل يحذّر من إيذاء البيئة وحيوان الإيغوانا (ما هو؟)، فيما يرزح المعتقلون في المكان، وهم 799 شخصا في تعذيبٍ شنيع (دين منهم ثمانية فقط). وإلى هذه وتلك، ثمّة شخصية ولد صلاحي نفسه، متديّن بشوش، يلعب الكرة، يُجادل محاميته ويحاورها، يناور معها، هي المعنية بالقانون ومسطرته، وليس بالضرورة ببراءة موكّلها الذي اختارته بنفسها. وفي الوسع، إذن، أن يُمتدح هذا المنزع الذي ذهب إليه المخرج، كيفين ماكدونالد، وقد قال، في محاورة معه، إنه لم يقصد إنجاز فيلم سياسي، وإنما عن معاناة عربي مسلم، متسامح، اللطف من سجاياه. ويُزاد هنا: لا علائم على العنف فيه، كان على علاقة حب عابرة في أثناء إقامته في ألمانيا.
إذن، هي الحكاية، وشخصية محمدو ولد صلاحي، وفّرتا للفيلم مواطن جودةٍ ظاهرة فيه، أضافت إلى ما اشتغل عليه المخرج بشأن حدّة المؤسسية البوليسية والعسكرية الأميركية، مع كلام مسترسل عن القيم الأميركية، والعدالة، وسلطة القانون، ومع تظهير الروح المسيحية أيضا. وبعد هذا كله، جاء المُنَتج فيلما لا بأس به.