المنفى والعودة ... النظرية السياسية
تمثّل ترجمة "دليل أكسفورد للنظرية السياسية" أحد الإنجازات الفكرية المهمّة للمركز العربي للدراسات والأبحاث، وكان قد صدر في العام 2008 عن جامعة أكسفورد، وترجمه بشير الخضرا وراجعه عمر التل في العام 2022، فيما شارك عشرات العلماء في النظرية والفكر السياسي بأصنافه المختلفة والمتنوعة في فصول الكتاب وصفحاته التي تجاوزت 1100 صفحة.
تكمن أهمية الكتاب على أكثر من صعيد، في مقدمتها ردّ الاعتبار للنظرية السياسية التي تعرّضت لهجوم لاذع وكبير منذ خمسينيات القرن الماضي، وتحديداً مع هيمنة المدرسة السلوكية على الجمعية الأميركية للعلوم السياسية ولجنة السياسات المقارنة، وجامعات أميركية عديدة، وهي المدرسة التي قلّلت كثيراً من شأن النظرية السياسية بصيغتها المعيارية أو المرتبطة بالفكر السياسي عموماً، واعتبرتها خارج دائرة العلوم السياسية الحديثة، طالما أن هذا الحقل، بصيغته التاريخية، عاجز عن التحوّل إلى المدرسة الكمّية والمؤشّرات الرقمية الواقعية. وبالتالي، برز مفهوم النظرية السياسية التجريبية أو الأمبريقية بوصفها النموذج العلمي الوحيد في هذا المجال!
انتقلت العدوى إلى العالم العربي في النظر إلى الفكر السياسي، الذي يتموضع عادةً تحت حقل النظرية السياسية، وأصبحت جامعاتٌ عربية كثيرة تأخذ بهذا، فتمّ تهميش تخصص النظرية السياسية إلى درجة كبيرة. وبالرغم من صعود مدرسة ما بعد السلوكية في الولايات المتحدة، والضربات التي تعرّضت لها المدرسة السلوكية في الستينيات والسبعينيات، وبروز مقاربات مختلفة تتفهّم أكثر التنوّع في تجارب العالم، بخاصة مع سيمنار كامبردج الذي أشرنا إليه في مقال سابق "نحو إعادة التفكير في حالة العلوم السياسية عربياً" (العربي الجديد، 6/6/2023)، الذي درس حالة العلوم السياسية (بخاصة السياسة المقارنة والانتقادات للسلوكية وقدّم لمقاربات ما بعد السلوكية)، فإنّ النظرية السياسية استمرّت تعاني من أزمات بنيوية داخلية عديدة، والتداخل مع حقول أخرى، مثل التاريخ والفلسفة وإعادة تصميم وفهم العلاقة بينها وبين باقي حقول العلوم السياسية.
نُشر في العام 2005 كتاب أستاذة العلوم السياسية الأميركية كريستين مونرو "البيريسترويكا ... التمرّد الصاخب في العلوم السياسية"، بعد خمسة أعوام من إرسال رسالة نقدية وقّع عليها باسم السيد بيريسترويكا إلى الجمعية الأميركية للعلوم السياسية، تنتقد الهيمنة الكبيرة للمدرسة السلوكية وعملية إقصاء الاتجاهات والأراء الأخرى من المجتمع العلمي الأميركي في حقل السياسة، وجاء الكتاب لاحقاً ليعزّز هذه الدعوى، والمطالبة بتغييرات كبيرة في هذا المجال.
يتتبّع "دليل أكسفورد" تلك الحوارات والنقاشات لارتباطها المباشر والعميق بشرعية هذا التخصّص وهويته وحدوده وعلاقاته بالتخصصات الأخرى وبسؤال مناهج البحث والأهداف والغايات المتعلقة به، ويقودنا إلى المساهمات المهمة والكبيرة لعلماء سياسيين عديدين أثّروا على اهتمامات النظرية السياسية وأولوياتها والنقاشات والمناهج التي سادت في الفترة الماضية، ومن أبرز هذه المساهمات كتاب رولز في العدالة الذي أصبح نصّاً مؤسّساً في الحقل تدور حوله كتاباتٌ عديدة، وكذلك الأمر مساهمات مدرسة فرانكفورت وهربرت ماركوز وحنا أرندت وليو شتراوس وفوكو وهابرماس وغيرهم من علماء في الاجتماع والسياسة والثقافة.
نسبة كبيرة من النقاش العلمي في حقل النظرية السياسية الغربية تحوّل نحو النقاش في اللبيرالية السياسية ونقّادها والجماعاتية والماركسية ومحاولة إيجاد منطقة وسطى بين هذه الأيديولوجيات أو المذاهب السياسية. وبرزت كذلك المدارس الجديدة في النظرية السياسية، المرتبطة بالبيئة والمرأة، كما تتناول فصول الكتاب موضوعات عديدة، مثل التيارات المعاصرة وميراث الماضي، والنظريات السياسية في العالم (الإسلامية والكونفوشية مقارنة بالاستثنائية الأميركية والدولة والشعب والمجتمع المدني والدولة ومثلت القيم العليا العدالة والمساواة والحرّية والتعدّدية الثقافية والقومية وقضايا حقوق الإنسان والعلمانية السياسية والبارانويا والفلسفة السياسية.. إلخ).
يعنون أرلين ساكسونهاوس الفصل الأخير من الكتاب بعنوان "المنفى والعودة: النظرية السياسية بين الأمس واليوم"، وهو توصيفٌ دقيق لعملية التجريف والتهميش التي جرت للنظرية السياسية في العقود السابقة، في مجتمع العلوم السياسية، بينما تبدو اليوم هنالك مهامّ عديدة كبيرة يمكن للنظرية السياسية، بأنواعها وألوانها المختلفة، أن تقوم بها وتعجز عنها الحقول الأخرى.