المنظور الأميركي للمحكمة الجنائية الدولية
عقب طلبه إصدار مذكّرات توقيف في حقّ رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، ووزير الأمن يوآف غالانت، إلى جانب ثلاثة من قادة "حماس"، ردّ مدّعي عام المحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، في مقابلته مع شبكة سي إن إن على سؤال من المذيعة بشأن انتقاداتٍ تعرّض لها في الولايات المتّحدة، على خلفية "تطاوله" على المسؤولين الإسرائيليين، فتحدّث عمّا نقله من رسائل إلى المعترضين، من سياسيين وأعضاء في الكونغرس الأميركي، لكنّ الأكثر أهمّيةً قوله: "وبالطبع، تحدّث معي بعض الساسة وكانوا صرحاء للغاية وقالوا: هذه المحكمة بُنيت من أجل أفريقيا ومن أجل السفّاحين مثل بوتين".
ليست هذه الجملة مفاجئة في حدّ ذاتها، بل هي مكرّسة أمراً واقعاً في سياسات الإدارة الأميركية، وغيرها من القوى على الساحة الدولية، التي تتعاطى مع الهيئات والوكالات الأممية بناءً على ما تقتضيه مصالحها فقط، لا انطلاقاً من أيّ قيم أو مبادئ قانونية. وسبق أن تمظهر ذلك في مواقف الإدارات الأميركية من التحقيقات التي أجرتها المحكمة بشأن حربَي العراق وأفغانستان. ولذلك، لطالما تحدّد الموقف الأميركي من المدّعي العام للمحكمة، أو حتّى من المحكمة ككلّ، بناءً على القضية التي تدرسها وهُويّة المُلاحَقين، لا بناءً على حقيقة الجرائم المُسجّلة. والحرب بأوجه متعدّدة، التي شنتها إدارات أميركية على المحكمة وقضاتها سابقاً، ها هي اليوم تعود مع التلويح بعقوبات جديدة، لكن هذه المرّة لأجل إسرائيل، التي تريد المُضيّ في مجازرها بحقّ الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة بعد ثمانية أشهر من العدوان والتهجير والتجويع، من دون أن يمتلك أيّ طرف الحقّ في مساءلتها أو حتّى استنكار مجازرها. وفعلاً، لم يبخل المسؤولون الأميركيون في "تأدية واجبهم"، إذ لم يتوقّف سيل الانتقادات للمحكمة، بدءاً من الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي أنكر بفجاجة وجود إبادة في غزّة، مروراً بوزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، الذي وصف قرار المحكمة بأنّه خاطئ، وجلس في جلسة استماع داخل الكونغرس يتسابق مع أعضاء المجلس المُؤيّدين لإسرائيل في التصويب على المحكمة.
لكنّ هذا المشهد المقيت كلّه، من الانتقائية بالتعاطي مع المحكمة، ليس استثناءً أو حكراً على أميركا. فروسيا التي أصدرت المحكمة مذكّرة اعتقالٍ في حقّ رئيسها فلاديمير بوتين العام الماضي، على خلفية اتهامه بارتكاب جريمة حرب جرّاء ترحيل مئات الأطفال من أوكرانيا بشكلٍ غير قانوني عقب الغزو الروسي، تجاهلت القرار ووصفته بالباطل وعديم الأهمية. لكنّها هي نفسها اتهمت أميركا، أخيراً، بازدواجية المعايير، وبالنفاق، لرفضها تحقيقات المحكمة على خلفية عملية طوفان الأقصى، وما تلاها، من عدوان إسرائيلي على قطاع غزّة.
وتخدم هذه المواقف، على نحو مثالي، مجرمي الحرب في بلدانهم على كثرتهم. يمكن في السياق تذكّر ما كان يقوله الرئيس السوداني المعزول، عمر البشير، عن المحكمة، بعدما أصدرت مذكّرات توقيف في حقّه، وفي حقّ مسؤولين آخرين، على خلفية جرائم دارفور. كان البشير يصف المحكمة بأنّها من "مؤسّسات الاستعمار الجديد". وعقب صدور المذكّرات توجّه إلى إقليم دارفور، قائلاً: "أقول لهم: كلّ أعضاء المحكمة ومدّعيها العام تحت حذائي هذا". وبالفعل، بقي البشير في الحكم بعد ذلك نحو 12 عاماً، سافر خلالها إلى دولٍ عديدة، مُوقّعة على نظام روما الخاص بالمحكمة وغير موقّعة. وحتّى بعد الثورة، واعتقاله، لم يُتّخذ قرارُ تسليمه، لأنّ شركاءه في الجرائم أرادوا حماية أنفسهم ومواقعهم قبل حمايته.
ولذلك، محدودةٌ الحالات التي تمكّنت فيها المحكمة من تنفيذ مذكّرات الاعتقال في حقّ قادة بارزين، ولن يكون الوضع في حقّ مسؤولي إسرائيل مختلفاً، إذ لا يتوقع أن تجلب المحكمة نتنياهو أو غالانت، أو أيّ مسؤول إسرائيلي آخر، إلى قاعاتها لمحاكمته، لكنّ الأكيد أنّ تداعيات مذكّرات الاعتقال، إن صدرت، ستلاحق قادةَ إسرائيل طويلاً.