المنطقة العربية والمجهول القادم
يشهد الإقليم العربي وما جاوره تحولاتٍ ربما كانت إلى فترة قريبة تبدو في حكم المستبعد، غير أن واقع السياسة ومصالح الأنظمة يفرضان دائما تغييراتٍ أبعد بكثير مما يمكن أن يتوقّعه المتابع للشأن العام. وتأتي المصالحة السعودية الإيرانية في مقدمة تلك التحوّلات التي ما زال حبرٌ كثير يسيل للوقوف على الأسباب والمسبّبات التي عجلت بها، بعد سنوات طويلة من القطيعة، وربما الصراع بالوكالة الذي ساد بين البلدين الإقليميين، مصالحة يرى المدافعون عنها أنها ستحمل الكثير من الانفراج للمنطقة، لما تشكلانه، السعودية وإيران، من ثقل إقليمي وحتى دولي. ويرى آخرون أنها لا تعدو أن تكون هدنة مؤقتة بين بلدين ما زال التنافس بينهما للهيمنة الإقليمية على أشدّه، وخصوصا أن أسباب الخلاف الذي قاد إلى القطيعة ما زالت على الأغلب قائمة ولا شيء تغير. وكان الانفتاح على نظام بشار الأسد عربيا أحد تلك المواقف التي ما زالت في حاجة هي الأخرى إلى تفسير، فما الذي تغير حتى تبدأ أصوات أنظمة عربية لطالما وقفت ضد النظام ودعت إلى إسقاطه، بالمسارعة إلى محاولة إعادة دمجه في المنظومة العربية.
زيارة وفد من حركة المقاومة الإسلامية (حماس) إلى العربية السعودية، لأداء مناسك العمرة خلال شهر رمضان المنصرم، تغيرٌ آخر في المواقف وتبدّل فيها بشكل كبير، فالحركة المتهمة بأنها تحوّلت إلى ذراع إيراني بامتياز، فيما قادة الحركة يؤكدون في كل مناسبة أن العلاقة مع طهران كما هي، ولا يقبلون حتى الهمس بأنها على استعدادٍ للتخلي عن هذه العلاقة، فما الذي تغيّر حتى باتت الحركة مقبولة من السعودية وأنظمة عربية أخرى.
لا ينبغي النظر إلى الأمور بعين العواطف. وبالتأكيد، لا يمكن أن ننسى ما تقوم به إيران من دور، نراه تخريبيا، وتراه إيران جزءاً من سعيها لإثبات الوجود. ولا يمكن أن نغضّ النظر عن جرائم نظام بشّار الأسد، حتى لو رأت فيه أنظمة عربية أنه يجب أن يبقى، وخصوصا أن 12 عاما من الحرب والثورة على هذا النظام لم تغير شيئا في ظل دعم روسي إيراني وحتى دولي، بالتالي فلا مصلحة من وجهة نظر هذه الأنظمة في استمرار مقاطعة النظام، وكذا الحال بالنسبة لحركة حماس وتابعيتها المقيتة لإيران التي باتت تجرح شعوبا عربية كثيرة.
تبدو جامعة الدول العربية غائبة، كعادتها، عن تطورات المنطقة والإقليم، فهي، منذ عقد خلا، لم تعد كما كانت، وباتت أثقل من قبل
الأهم في كل هذه التحالفات والاستدارات العنيفة في المواقف أن تكون مسنودة بخطة عربية لمعالجة الكثير مما فاتها من مواقف السياسة التي ترفض أن تكون مبدئية في أي يوم، فهل هناك فعلا خطة عربية لذلك؟ تبدو السعودية آخذة بزمام المبادرة في غياب أي مفاعيل لدولٍ عربيةٍ أخرى، باتت، بمرور الزمن، منشغلة بما لديها من مشكلات داخلية. وهذا السعي السعودي في غياب أي دور عربي آخر، ما خلا الموقف القطري، وبنسبة أخرى الموقف الإماراتي، يستدعي وجود خطة قابلة للتطبيق والتنفيذ، من أجل أن يكون هناك مؤشّر إلى ما يمكن أن تكون عليه المنطقة العربية بعد عامين أو ثلاثة من تلك الانعطافات الكبيرة والتحول في السياسات.
تبدو جامعة الدول العربية غائبة، كعادتها، عن تطورات المنطقة والإقليم، فهي، منذ عقد خلا، لم تعد كما كانت، وباتت أثقل من قبل، وتحولت إلى هيكل فارغ المضمون، بالتالي، فإن أخذ دول عربية زمام المبادرة أمر مفهوم ولا يستدعي الاستغراب.
يمكن لإيران أن تكون أقلّ عدوانية، في ظل شعورها بمزيد من العزلة الدولية، تضاف إلى ذلك تهديدات إسرائيلية التي يبدو أن لدى طهران أكثر من سببٍ يجعلها ترى فيها هذه المرّة بأنها قد تكون مختلفة، وربما ساهم ذلك كله في دفع عجلة المصالحة مع السعودية، تمهيدا لغلق الملف اليمني أولاً، قبل أن تشرع عجلة المصالحة في دوران اختبار للنيات، ربما يمر على سورية، أولاً وبعد ذلك لبنان، وربما لا يستثني العراق.
التفاهمات التي طفت على سطح الأحداث في الآونة الأخيرة ناجمة في أغلبها من فهم الواقع والتعامل معه بالممكن، ولكنها ليست بالضرورة ناجمة عن قناعات
وغير بعيد عن إيران، هناك تركيا، الجار الشمالي للعرب، التي تقف متأهّبة هي الأخرى بانتظار ما ستسفر عنه انتخابات مايو/ أيار المقبل، فهي الأخرى لم تستثنها الاستدارات العربية العنيفة، فالرئيس التركي أردوغان الذي كان، إلى فترة قريبة، شخصيةً غير مرغوب بها من بعض الأنظمة العربية والخليجية، والتي اتهمت بعضها بترتيب انقلاب يوليو الفاشل عام 2016 في تركيا، بات اليوم مدعوما من تلك الأنظمة نفسها التي تخشى من صعود نجم القوميين الأتراك، وما يمكن أن يسبّبه لهم من متاعب قد لا تقلّ عن التي سببتها إيران وما زالت.
وإذا كانت السياسة فن الممكن، كما يعرّفها الواقعيون، فلمَ لا تجنح دول المنطقة إلى الواقعية وتتعامل مع الممكن إن كان ذلك ممكنا، وخصوصا أن كل دول المنطقة العربية وما جاورها تعيش في أزمات متلاحقة تتباين من دولة إلى أخرى؟ هل يعني ذلك أننا مقبلون على منطقة أقل صراعا وأكثر هدوءاً؟ لا، والسبب الرئيس أن التفاهمات التي طفت على سطح الأحداث في الآونة الأخيرة ناجمة في أغلبها من فهم الواقع والتعامل معه بالممكن، ولكنها ليست بالضرورة ناجمة عن قناعات، ناهيك عن أن الدور العربي ما زال يتعامل مع الأحداث بطريقة الفعل ورد الفعل، أي أننا لا يمكن أن نميّز موقفاً عربيا قائما على قراءة ورؤية واستشراف للمستقبل.
قد يكون المجهول أوضح الصور القادمة إلينا من المستقبل، فالشعوب العربية لا يبدو أنها مؤهّلة للقيام بثورات جديدة على أنظمتها، والحركات التي رعتها إيران سنوات خلت تحوّلت إلى عبء على طهران بسبب فسادها. والأنظمة العربية، ما خلا الخليجية، تعيش في أتون صراعاتها الداخلية، بينما تجد إيران نفسها مضطرّة لتقديم التنازلات هنا أو هناك لجني محصول سنوات من زرعها الدموي، في حين تصارع تركيا من أجل تشكيل هويتها الجديدة في ظل تحدّيات كبيرة تواجه ما قام به حزب العدالة والتنمية عشرين عاما، ليبقى باب المفاجآت مفتوحا على مصراعيه في ظل صراع أميركي صيني روسي يجد في المنطقة العربية ساحة خصبةٍ لتصفية الحسابات وربما الأنظمة.