11 نوفمبر 2024
الملوخيّة شأناً أردنياً
للملوخيّة حضورٌ عتيدٌ في مطبخ أشقائنا المصريين، تُعرّفنا بذلك مسلسلاتٌ وأفلامٌ مصرية عديدة، أكّدت نفوذ هذه الأكلة في مآدبهم، فقراءَ وأغنياء وبيْن بيْن. وفي سيرتها، أن قدامى المصريين أول من زرعوا نبتَتها. وعلى ذمّة من أرّخ، أراد الهكسوس الذين وفدوا إلى مصر محتلين ومخرّبين، قبل نيّفٍ وثلاثة قرون ونصف القرن، قهْر المصريين بإجبارهم على أكل الملوخيّة، غير أنهم استطابوها. وإذا صحّ هذا الخبر، وكذا منعُ الخليفة الفاطمي، الحاكم بأمر الله، عوامّ المصريين من أكل الملوخيّة، وقصْره على الملوك والأمراء، فإن هذه النبتة، عندما تُطهى بإتقانٍ، لا تصير مجرّد طبخةٍ في موائدنا، في غير بلدٍ في المشرق العربي، وإنما أيضاً شأناً يحيلُ إلى صلةٍ عويصةٍ بين السلطة والرعايا.
على الرغم مما للملوخيّة من تاريخٍ في مصر، حيث منبتُها الأول، إلا أنها هناك لا تتجاوز حدودَها، محضَ طبخةٍ على المائدة، وكفى الله المؤمنين شر القتال. وعلى وفرة ما تضجّ به مصر من طرائف، فإننا لم نصادف أن الملوخيّة استُخدمت، يوماً، في تعيير فئةٍ هناك فئةً أخرى، أو أنه جيء عليها للتبخيس من شأن أحد. وإذا رأى قارئٌ لهذه السطور أن ثمّة، في هذه الإشارة، غمزاً من قناة الأردنيين، فذلك صحيح، لأن وقائع تتابعت تسوّغ الزعم أن الملوخيّة، وإنْ كانت طبخةً تحظى محبّتها بإجماعٍ عريض بينهم، موضوعٌ متصلٌ لديهم بمسألتي الهوية والجندرية، أو هكذا يراها عديدون منا، نحن الأردنيين، من بين النخبة المثقفة والمتعلمة والمسيّسة، ومن مشتغلين في الهم العام وفي مواقع التمثيل والسلطة أيضاً.
أن تنزعج نائبتان (أو نائبان امرأتان إذا أردنا الفصاحة الأصح) في البرلمان الأردني، المنتخب أخيراً، من اصطياد كاميرا صحافيّة صورة رسالة إحداهما إلى الأخرى، تسأل فيها عن مكان لبيع الملوخيّة الناشفة، لرغبتها بشراء كيلو منها، فذلك من عاديّ الأمور، كما هو عاديٌّ أيضاً أن يروج في الشارع الأردني، بعد ذيوع الصورة، ومع اشتعال تعليقاتٍ مستهجنة ونكاتٍ ساخرةٍ في مواقع التواصل الاجتماعي على القصة، سؤالٌ عن أحقيّة النائبة (أو النائب؟) المحترمة بتمثيل من تمثلهم، وهي التي يشغل بالَها شراء كيلو ملوخية ناشفة في جلسةٍ للبرلمان مخصّصة لمنح الحكومة الثقة أو حجبها. وطبيعيٌّ أن يُهمَس بسؤالٍ آخر بشأن وجاهة نظام الكوتا الذي يعطي للمرأة الأردنية 15 مقعداً في مجلس النواب، طالما أن "الملوخية الناشفة" مسألةٌ أكثر إلحاحاً في بال نائبةٍ من تفحّص البيان الوزاري.
يظلم هذان السؤالان المرأة الأردنية كثيراً، فقد أثبتت نسوةٌ عديداتٌ في المجتمع الأردني اقتداراً وجدارةً في غير شأن، وفي البرلمانات المتعاقبة أيضاً. وكان مؤسفاً من نائبٍ في البرلمان السابق (تجدّدت عضويته في البرلمان الراهن) إشهارُه غضبه من نظام الكوتا، عندما أعيته الحيلة في محاججة زميلةٍ له تحت القبة. وكان مؤسفاً أكثر مطلبُه، خارج القبة، بأن تنشغل المرأة في بلاده بتخريط الملوخيّة، بدل السعي إلى الوجود في البرلمان. وبعطف قولتِه هذه، غير المنسيّة، إلى واقعة رسالة الملوخيّة الناشفة في البرلمان الجديد، تتبين (مجدّداً؟) مركزية الملوخية في ذهنيةٍ عريضةٍ في المجتمع السياسي الأردني، والخشية أن تُحسب رسالة النائب عليا أبو هليل إلى زميلتها النائب فضية أبو قدورة دليلاً على وجاهةٍ في الكلام البائس للنائب السابق الباقي.
ولا يُنسى، في مبحث الملوخية، في السياق الاجتماعي والسياسي الأردني، تعيير نائبةٍ سابقة، من عائلةٍ أردنية كريمة، مواطني بلدها من المنبت الفلسطيني، بأنهم لم يُنجزوا في الأردن شيئاً غير جلبهم الملوخيّة إليه. كان ذلك في قاعة إحدى الجامعات، وفي ندوةٍ عن الهوية الوطنية الأردنية، انسحب في أثنائها مشاركٌ فيها (ناهض حتر) بدعوى شططٍ في كلام زميله المشارك الآخر. كان ذلك قبل اثني عشر عاماً، وأثارت الواقعة كلها، في حينه، حنقاً على تردٍّ ظاهر في طرائق تفكيرٍ مثل هذه. ولكن، يبدو أن نجاح اللاجئين الفلسطينيين الذين صاروا وذريّاتهم أردنيين في توطين الملوخيّة وأردنتها بلغ شأواً عظيماً، بدلالة تسلّلها (ناشفة!) إلى المؤسسة التشريعية في البلاد، بل وفي غضون مساجلة بيان الحكومة. ولكن، لا يُسعفنا غير الضحك، عندما تتناوش الهويات الصغرى مع بعضها، وعندما تكون محبّة الملوخية عاملاً جامعاً في الوطن، أبقى الله الأردنيين موحّدين دائماً.