الملك فاروق .. وطنياً

02 أكتوبر 2015

الملك فاروق في 1946 (Getty)

+ الخط -

لأن قناة الجزيرة مغرضة، بحسب خصومها (الكثيرين؟)، فلا بد أنّ وراء الأكمة ما وراءها، في عرضها فيلماً توثيقياً عن الملك فاروق، في جزئين، أخيراً، بعد أن كانت "الجزيرة الوثائقية" قد عرضته سابقاً. لكن الانشغال بهذا الأمر المفتعل يصرف الانتباه إلى ما أراده معد الفيلم (سيناريو وإخراج محمد فريد)، وموجزُه تظهير صورةٍ أخرى لملك مصر الأخير، غير الشائعة عنه، فاسداً ولاهياً، ففي حياته تفاصيل أجدى بإنعام النظر فيها من هذا الأمر، الصحيح والمبالغ فيه معاً، فثمّة مفاعيلُ لأقدار ضاغطةٍ، كانت لها تأثيراتها الجوهرية على شخص هذا الملك الذي خُلع، وهو في سن الثانية والثلاثين، وكان قد تسنّى له العرش في السابعة عشر عاماً، ومات في منفاه، في مطعم في روما (مسموماً كما يقول بعضهم) في السادسة والأربعين. صغر سنّه هذا، وعدم إتمامه أي تعليم، ويفاعته ملكاً في بلدٍ كبير ومركزي، بين ذئاب السياسة المصرية وثعالبها (مصطفى النحاس وعلي ماهر وأحمد حسنين أمثلة)، وتحت سطوة الاحتلال البريطاني، وفي غضون مشكلات كبرى مع والدته الملكة نازلي التي أساءت لموقعه وللملكية المصرية، وكذا شهوته لإنجاب طفل، مع تتالي بناته الثلاث، تلك كلها، وغيرها، جعلت فاروق يُغالب أحوالاً أقوى منه، ويتورّط في أزمات شخصية وسياسية، ربما كانت من بواعث إنفاقه أوقاتاً وأموالاً كثيرة في المسخرة والعبث، بعد حصار الإنجليز قصره، وفرضهم عليه النحاس رئيساً للحكومة، وسط الحرب العالمية الثانية، في 1942، ووفاة أحمد حسنين في حادث في 1946، وهجرة والدته مصر في العام نفسه.

بدا الفيلم منشدّاً إلى ما يمكن حسبانه "إنصافاً" لهذا الملك الذي ما كان يلزم أن تقوم عليه ثورةٌ أو انقلاب، وهو الذي كان يستمتع في مشاهدة أفلام ميكي ماوس، على ما قال نجيب محفوظ. وحاجةُ فاروق شديدةٌ إلى الإنصاف، ولا ناقة لكاتب هذه الكلمات ولا جمل معه، عندما يجهر بقولٍ كهذا، وهو الذي يرى أن الثورة (سمّاها متحدثون في الفيلم انقلاباً) في 1952 أنقذت مصر، وأَنصفت شعبها، عندما حقّقت لهم مقادير كبرى من عدالةٍ اجتماعية كانوا في حاجة لها. أما ما جرى بعد ذلك، فقصةٌ أخرى شرحها يطول، كما أن قول أحد ضباط هذه الثورة، محمد نجيب، إنه ورفاقه خلعوا ملكاً وجاءوا بأحد عشر ملكاً، قصة أخرى أيضاً. ولعل الجهد الأهم، في الدراما والسينما، في إنصاف فاروق كان في المسلسل التلفزيوني عنه، الذي كتبته لميس جابر (إيّاها)، وكان متقناً في إخراجه (حاتم علي)، وكذا في أداء ممثليه (تيّم الحسن بطلاً)، وإن ظهر مهلهلاً في أواخر حلقاته.

أحدث ذلك المسلسل، بعد عرضه الأول في موسم رمضان 2007 انتباهاً لدى مصريين كثيرين، لا سيما من الأجيال الجديدة، إلى "العهد البائد" الذي تأتي عليه مناهج التدريس في بلدهم. وأحدث سؤالاً فيهم، عمّا إذا كان الملك فاروق، العابث الفاسد بحسب معرفتهم به، حقاً يحب بلده، ووطنياً ولديه مشاعر حانية. إنه يكره الإنجليز ويمقتهم، وهذه حقيقة تاريخية، بل تمنّى هزيمتهم في الحرب العالمية، وتواصل سراً، في أثنائها، مع الألمان. وأصرّ على خوض مصر حرب إنقاذ فلسطين في 1948، معارضاً رئيس حكومته، محمود فهمي النقراشي. رأى متحدثون في فيلم "الجزيرة" أن غرضه من ذلك تبييض صورته، وإنقاذ سمعته التي كانت، في تلك الغضون، مترديّة لدى المصريين. وقد مال الفيلم إلى تبرئة الملك من قصة الأسلحة الفاسدة في الحرب، وتقديم روايةٍ أكثر إقناعاً بشأنها.

يرى محمد حسنين هيكل، وهو مَن هو بشأن جمال عبد الناصر و"يوليو"، أن الملك فاروق من أكثر الشخصيات مأساويةً في التاريخ، وكتب عنه أنه "كان وطنياً مصرياً، وحتى عندما غرق لاحقاً في مستنقع من الفساد زاد وفاض على ما حوله، ظلت وطنيته سليمةً في تعبيرها عن نفسها". تصلح هذه الخلاصة شهادةً لتأكيد ما أوحى به فيلم "الجزيرة"، أما إذا كان شيءٌ ما وراء الأكمة من عرضه، فلا أعرفه.

 

 

 

 

 

 

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.